الدكتور أكرم حجازي يكتب:عن حتمية تفكك النظام الدولي الراهن
فضلا عن أزمات الرأسمالية العالمية وما ينتظرها من خطر التفكك، ودخول إيران كلاعب أمني بارز في النظام الدولي والإقليمي، وتآكل الشرعيات للدول العربية والنظم السياسية، وانفجار الثورات، ودخول البشرية كلها في حالة انعطاف تاريخي، فإن أول الملاحظات التي تستدعي الحديث عن أزمة النظام الدولي وتفككه الحتمي في صيغه التقليدية، إنما تقع في المستوى الديمغرافي أولا. فما الذي يمكن ملاحظته بعد نحو مائة عام على إقامة النظام الدولي؟
قبل مائة عام عدد سكان البشرية كان بحدود ملياري إنسان. لكن مع نهاية القرن وصل إلى ستة مليارات، ثم إلى أكثر قليلا من سبعة مليارات حتى سنة 2015، وهو ما يعني أن نسبة الزيادة السكانية للبشرية وصلت نحو 350% تقريبا. وخلال القرن بدت التشريعات والمؤسسات والقواعد التي تم وضعها قادرة على احتواء الوحدات السياسية الرسمية للنظام الدولي، كـ (1) الدولة القومية و (2) الوحدات المؤسسية الإدارية، الأساسية والفرعية، والمتخصصة كالجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة العمل الدولية واليونسكو و الصحة و ….، ومنتجات النظام من الجماعات السياسية غير الرسمية، كـ (3) الأحزاب، و (3) الجماعات الوطنية، و (3) الثورات، و (4) حركات التمرد، و (5) حتى الانقلابات العسكرية والعصابات الإجرامية، وقوى النهب والتحكم والسيطرة …. إلخ
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد السكان يتضاعف بمعدل متوالية هندسية كل 25 – 30 عاما، فسنكون إزاء عدد مخيف جدا في فترة قصيرة قادمة. فهل سيكون بمقدور رموز النظام الدولي الاستمرار في ممارسة الهيمنة، عبر بضعة دول، على هذا العدد الهائل من السكان، دون أن تلقي بالا للتغيرات الجارفة!؟ بل هل بنية النظام الدولي تشريعاته ومرجعياته قادرة على ذلك؟
لا شك أن كل الوحدات والقوى، السياسية وغير السياسية، التي سادت في القرن العشرين، أمكن احتواؤها تحت سقف النظام الدولي طوعا أو كرها. وكلها قبلت أو استسلمت، في المحصلة، لسياسة الاحتواء أو خضعت للهيمنة، أو استدرجت أو تم تهميشها أو تم تجريد رسالتها ودعوتها ومطاليبها من أي محتوى. واختزلت، في أحسن الأحوال، إنْ لم تندثر، إلى مجرد يافطات إعلامية وبيانات صحفية تُذكِّر بوجودها في المناسبات أو بعض المناسبات.
وفي المحصلة كان لدينا قوى حكومية تتمتع بحق احتكار السلاح والسلطة واستخدام القوة، بغطاء مما يسمى بالشرعية الدولية. على النقيض تماما من القوى الأخرى لاسيما الوطنية منها، والمتمردة أو الثائرة، التي جرى وسمها بـ « الإرهاب» و « التخريب».
بدأ الأمر بالتغير الجذري في أواخر القرن العشرين، بدءً من الغزو السوفياتي لأفغانستان سنة 1979، وانتهاء بالإعلان عن نشأة تنظيم « القاعدة» سنة 1992، حين ظهر ما اشتهر باسم « التيار الجهادي العالمي»، الذي يرفض التعامل مع النظام الدولي، بكل تشريعاته ومرجعياته ووحداته السياسية والإدارية والحقوقية والأمنية. وفي أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر سنة 2001، وغزو العراق، في ربيع العام 2003، ثبت ما يعرف بلغة رموز النظام الدولي بمصطلح « اللاعبين الجدد».
لكن تجربة « اللاعبون الجدد»؛ تمخضت في العراق عن قوى جديدة لم تظهر من قبل، وهي تلك التي اشتهرت باسم « الصحوات»، التي استحدثها سنة 2008، قائد القوات الأمريكية في العراق، الجنرال ديفيد بيتريوس، لمقاتلة « القاعدة» و « الجماعات الجهادية». والأهم أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بتعميم الفكرة، حيثما تواجدت « القاعدة» وجماعاتها، أو بشكل أوسع تنظيمات « التيار السلفي الجهادي». بل أن الدول المعنية شرعت باختبار النموذج.
مع تعاظم شأن التدخل الإيراني في العراق، ومن ثم سوريا واليمن والبحرين وغيرها، مقابل ضعف « القوات الحكومية»، بدأت تظهر وحدات سياسية جديدة، يطلق عليها اسم « القوات غير الحكومية». وهي قوات مساندة للقوات الحكومية. وفي العراق تشتهر باسم « الحشد الشعبي». أما الآن؛ وتحت بقايا سقف النظام الدولي، ثمة أربع قوى مسلحة هي:
(1) « قوات الدول العظمى»، التي لم تعد ترغب في خوض ما يسمى بـ « حروب التكلفة»، واتجهت نحو العمل وفق منطق « القيادة من الخلف». وهو ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
(2) « القوات الحكومية»، وهي قوى الدولة القومية الرسمية، من جيش وأمن وشرطة وقوى ضاربة.
(3) « القوات غير الحكومية»، هي تلك التي تتكون من المليشيات والمرتزقة والاثنيات والطوائف والبلطجية والشبيحة.
(4) « القوات الجهادية»، ممثلة بجماعات التيار الجهادي العالمي.
أما القوات الثلاث الأولى؛ فهي قوات مقبولة من النظام الدولي، لكنها ليست بالضرورة مشروعة أو تتمتع بالشرعية. أما « الجهادية» فهي الوحيدة المصنفة إرهابية. أما النظام الدولي، بكل تشريعاته، فقد بات عاجزا عن التعامل مع القوى الجديدة. لأن منظوماته التشريعية ومرجعياته تخلوا من أية نصوص قانونية للتعامل معها. وتبعا لذلك فهي مقبولة سياسيا وأمنيا فقط بقدر ما تلبي مصالح رموز النظام الدولي، لكنها مرفوضة وإرهابية بقدر ما تعادي النظام الدولي. وهذا أحد أسباب العجز والحاجة إلى إعادة بناء النظام الدولي من الأساس. لذا؛ ليس غريبا، وسط تصعيد أمني يتجاوز كل المنظومات الحقوقية التي يؤمن بها أو يتحدث عنها، أن نجد مثلا أن أكثر ما استطاع النظام الدولي فعله هو الدعوة إلى « مكافحة الإرهاب» أو تشكيل « التحالفات الدولية»، وكلها فشلت في مواجهة العجز.
لكن المشكلة التي تواجه النظام الدولي أيضا، فيما يتعلق بإعادة بناء النظام الإقليمي، تقع في مستوى « الدولة القومية» ذاتها. إذ يستحيل، مثلا، التفكير بأمن أو استقرار المنطقة، بناء على التوزيع الديمغرافي السابق على احتلال العراق أو الثورة السورية. ولعل أوضح الخيارات الجاري العمل بها واقعيا، إذا ما استبعدنا التقسيم على سبيل المثال، وبقيت « الدولة القومية»، كما هي بحدودها السياسية التقليدية، هي تلك التي تجتهد وتحث الخطى على ربط المجتمع بروابط ديمغرافية متينة، تحول دون تفكك المجتمع والدولة لعقود قادمة. أما كيف؟ فذلك يتم عبر إعادة التوزيع الديمغرافي للأقليات والطوائف، وتوطينها بما يسمح لكل طائفة أو أقلية في الدفاع عن نفسها، بحيث تبدو مناطق التوطين الجديدة عصية على السقوط، وذات مصلحة في استمرار النظام. فالنصيرية مثلا، كالدرزية والشيعة والنصرانية و … تنحسر في مناطق قابلة للحياة والاستمرار. بحيث يمكنها أن تعيش محصنة بعيدا عن أغلبية يمكن في لحظة ما من الزمن أن تبتلعها.
يحدث كل هذا وأعظم منه؛ بينما العالم الإسلامي والعرب، على الخصوص، لا يتحدثون إلا عن الأمن والاستقرار! وكأن ما يجري لا يمسهم، ولا علاقة لهم به! هكذا كانوا عشية « سايكس – بيكو»، قبل مائة عام، خارج الفعل والحسابات .. وهكذا هم الآن!!! وحدهم الأتراك، الذين باتوا يدركون الأمر، ويتحدثون، كإطار رسمي، عن مشاريع التقسيم المنتظرة، وإعادة بناء النظام الدولي .. يتحدثون؛ مع أنهم كغيرهم تحت السكين، فيما يبدو الآخرون كما لو أنهم بانتظار السكين طوعا أو كتحصيل حاصل!!!
فضلا عن أزمات الرأسمالية العالمية وما ينتظرها من خطر التفكك، ودخول إيران كلاعب أمني بارز في النظام الدولي والإقليمي، وتآكل الشرعيات للدول العربية والنظم السياسية، وانفجار الثورات، ودخول البشرية كلها في حالة انعطاف تاريخي، فإن أول الملاحظات التي تستدعي الحديث عن أزمة النظام الدولي وتفككه الحتمي في صيغه التقليدية، إنما تقع في المستوى الديمغرافي أولا. فما الذي يمكن ملاحظته بعد نحو مائة عام على إقامة النظام الدولي؟
قبل مائة عام عدد سكان البشرية كان بحدود ملياري إنسان. لكن مع نهاية القرن وصل إلى ستة مليارات، ثم إلى أكثر قليلا من سبعة مليارات حتى سنة 2015، وهو ما يعني أن نسبة الزيادة السكانية للبشرية وصلت نحو 350% تقريبا. وخلال القرن بدت التشريعات والمؤسسات والقواعد التي تم وضعها قادرة على احتواء الوحدات السياسية الرسمية للنظام الدولي، كـ (1) الدولة القومية و (2) الوحدات المؤسسية الإدارية، الأساسية والفرعية، والمتخصصة كالجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمة العمل الدولية واليونسكو و الصحة و ….، ومنتجات النظام من الجماعات السياسية غير الرسمية، كـ (3) الأحزاب، و (3) الجماعات الوطنية، و (3) الثورات، و (4) حركات التمرد، و (5) حتى الانقلابات العسكرية والعصابات الإجرامية، وقوى النهب والتحكم والسيطرة …. إلخ
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد السكان يتضاعف بمعدل متوالية هندسية كل 25 – 30 عاما، فسنكون إزاء عدد مخيف جدا في فترة قصيرة قادمة. فهل سيكون بمقدور رموز النظام الدولي الاستمرار في ممارسة الهيمنة، عبر بضعة دول، على هذا العدد الهائل من السكان، دون أن تلقي بالا للتغيرات الجارفة!؟ بل هل بنية النظام الدولي تشريعاته ومرجعياته قادرة على ذلك؟
لا شك أن كل الوحدات والقوى، السياسية وغير السياسية، التي سادت في القرن العشرين، أمكن احتواؤها تحت سقف النظام الدولي طوعا أو كرها. وكلها قبلت أو استسلمت، في المحصلة، لسياسة الاحتواء أو خضعت للهيمنة، أو استدرجت أو تم تهميشها أو تم تجريد رسالتها ودعوتها ومطاليبها من أي محتوى. واختزلت، في أحسن الأحوال، إنْ لم تندثر، إلى مجرد يافطات إعلامية وبيانات صحفية تُذكِّر بوجودها في المناسبات أو بعض المناسبات.
وفي المحصلة كان لدينا قوى حكومية تتمتع بحق احتكار السلاح والسلطة واستخدام القوة، بغطاء مما يسمى بالشرعية الدولية. على النقيض تماما من القوى الأخرى لاسيما الوطنية منها، والمتمردة أو الثائرة، التي جرى وسمها بـ « الإرهاب» و « التخريب».
بدأ الأمر بالتغير الجذري في أواخر القرن العشرين، بدءً من الغزو السوفياتي لأفغانستان سنة 1979، وانتهاء بالإعلان عن نشأة تنظيم « القاعدة» سنة 1992، حين ظهر ما اشتهر باسم « التيار الجهادي العالمي»، الذي يرفض التعامل مع النظام الدولي، بكل تشريعاته ومرجعياته ووحداته السياسية والإدارية والحقوقية والأمنية. وفي أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر سنة 2001، وغزو العراق، في ربيع العام 2003، ثبت ما يعرف بلغة رموز النظام الدولي بمصطلح « اللاعبين الجدد».
لكن تجربة « اللاعبون الجدد»؛ تمخضت في العراق عن قوى جديدة لم تظهر من قبل، وهي تلك التي اشتهرت باسم « الصحوات»، التي استحدثها سنة 2008، قائد القوات الأمريكية في العراق، الجنرال ديفيد بيتريوس، لمقاتلة « القاعدة» و « الجماعات الجهادية». والأهم أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بتعميم الفكرة، حيثما تواجدت « القاعدة» وجماعاتها، أو بشكل أوسع تنظيمات « التيار السلفي الجهادي». بل أن الدول المعنية شرعت باختبار النموذج.
مع تعاظم شأن التدخل الإيراني في العراق، ومن ثم سوريا واليمن والبحرين وغيرها، مقابل ضعف « القوات الحكومية»، بدأت تظهر وحدات سياسية جديدة، يطلق عليها اسم « القوات غير الحكومية». وهي قوات مساندة للقوات الحكومية. وفي العراق تشتهر باسم « الحشد الشعبي». أما الآن؛ وتحت بقايا سقف النظام الدولي، ثمة أربع قوى مسلحة هي:
(1) « قوات الدول العظمى»، التي لم تعد ترغب في خوض ما يسمى بـ « حروب التكلفة»، واتجهت نحو العمل وفق منطق « القيادة من الخلف». وهو ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
(2) « القوات الحكومية»، وهي قوى الدولة القومية الرسمية، من جيش وأمن وشرطة وقوى ضاربة.
(3) « القوات غير الحكومية»، هي تلك التي تتكون من المليشيات والمرتزقة والاثنيات والطوائف والبلطجية والشبيحة.
(4) « القوات الجهادية»، ممثلة بجماعات التيار الجهادي العالمي.
أما القوات الثلاث الأولى؛ فهي قوات مقبولة من النظام الدولي، لكنها ليست بالضرورة مشروعة أو تتمتع بالشرعية. أما « الجهادية» فهي الوحيدة المصنفة إرهابية. أما النظام الدولي، بكل تشريعاته، فقد بات عاجزا عن التعامل مع القوى الجديدة. لأن منظوماته التشريعية ومرجعياته تخلوا من أية نصوص قانونية للتعامل معها. وتبعا لذلك فهي مقبولة سياسيا وأمنيا فقط بقدر ما تلبي مصالح رموز النظام الدولي، لكنها مرفوضة وإرهابية بقدر ما تعادي النظام الدولي. وهذا أحد أسباب العجز والحاجة إلى إعادة بناء النظام الدولي من الأساس. لذا؛ ليس غريبا، وسط تصعيد أمني يتجاوز كل المنظومات الحقوقية التي يؤمن بها أو يتحدث عنها، أن نجد مثلا أن أكثر ما استطاع النظام الدولي فعله هو الدعوة إلى « مكافحة الإرهاب» أو تشكيل « التحالفات الدولية»، وكلها فشلت في مواجهة العجز.
لكن المشكلة التي تواجه النظام الدولي أيضا، فيما يتعلق بإعادة بناء النظام الإقليمي، تقع في مستوى « الدولة القومية» ذاتها. إذ يستحيل، مثلا، التفكير بأمن أو استقرار المنطقة، بناء على التوزيع الديمغرافي السابق على احتلال العراق أو الثورة السورية. ولعل أوضح الخيارات الجاري العمل بها واقعيا، إذا ما استبعدنا التقسيم على سبيل المثال، وبقيت « الدولة القومية»، كما هي بحدودها السياسية التقليدية، هي تلك التي تجتهد وتحث الخطى على ربط المجتمع بروابط ديمغرافية متينة، تحول دون تفكك المجتمع والدولة لعقود قادمة. أما كيف؟ فذلك يتم عبر إعادة التوزيع الديمغرافي للأقليات والطوائف، وتوطينها بما يسمح لكل طائفة أو أقلية في الدفاع عن نفسها، بحيث تبدو مناطق التوطين الجديدة عصية على السقوط، وذات مصلحة في استمرار النظام. فالنصيرية مثلا، كالدرزية والشيعة والنصرانية و … تنحسر في مناطق قابلة للحياة والاستمرار. بحيث يمكنها أن تعيش محصنة بعيدا عن أغلبية يمكن في لحظة ما من الزمن أن تبتلعها.
يحدث كل هذا وأعظم منه؛ بينما العالم الإسلامي والعرب، على الخصوص، لا يتحدثون إلا عن الأمن والاستقرار! وكأن ما يجري لا يمسهم، ولا علاقة لهم به! هكذا كانوا عشية « سايكس – بيكو»، قبل مائة عام، خارج الفعل والحسابات .. وهكذا هم الآن!!! وحدهم الأتراك، الذين باتوا يدركون الأمر، ويتحدثون، كإطار رسمي، عن مشاريع التقسيم المنتظرة، وإعادة بناء النظام الدولي .. يتحدثون؛ مع أنهم كغيرهم تحت السكين، فيما يبدو الآخرون كما لو أنهم بانتظار السكين طوعا أو كتحصيل حاصل!!!