حينما ذكرنا الدوائر المتعددة لمفهوم «الأمة» كنا نعبر عن حقيقة الأمة من ناحية، وعن مدى «صلاحية هذه الأمة» لاستيعاب كل من يريد أن يشارك الأمة فى بعض همومها، ويقترب منها ليتعرف على ما تعلنه وما تدعيه من «كرامة وحقوق الإنسان» و«الإعمار والإصلاح والتنمية»، وما تجاهر به من أن مرجعها الأعلى «القرآن الكريم» يدعو إلى عالمية محترمة مستندها ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ..)).
ــ1ــ
فالأمة المسلمة يتسع إقليمها لكل إنسان بقواعد النظام العام للمجتمع ــ بغض النظر عن معتقده وطقوسه. وقد ذكرنا فى الحلقة السابقة أن يهود قينقاع والنضير وقريظة كانوا يسكنون المدينة، وتعودت كل قبيلة منهم الإقامة فى «حى مغلق عليها»، وقد شملهم جميعا دستور المدينة، ولولا خيانتهم لذلك الدستور لبقوا إلى يومنا هذا فى المدينة. ونزيد اليوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود من المسيحيين وغيرهم، ليس فى مجتمعه فحسب، بل فى مسجده يقيمون فيه إقامة كاملة حتى يطلبوا الرحيل. حدث ذلك مع وفد نجران، ووفد الحبشة إذ بقى كل وفد منهم فى المسجد قرابة شهر أو أكثر، وفى مشهور الأخبار أنهم أقاموا صلواتهم وطقوسهم داخل المسجد على مرأى ومسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم ينكر عليهم أحد.
ــ2ــ
والتاريخ يحدثنا أن دولة الروم حاولت محاولة فاشلة أن تجرح دولة المسلمين، وتصمها بالعصبية، فاستدرج الروم «قبيلة الغساسنة» وهى قبيلة مسيحية كانت تقيم على حدود الجزيرة قرب «تبوك»، وحرضوا الغساسنة على قطع الطريق وإشاعة الفوضى فى المنطقة وذلك فيما يشبه «نصب فخ» للدولة ودستورها من ناحية، ولتدبير موقعة بين المسلمين وبين جيش الروم ليهزمهم. وما إن علم المسلمون بذلك، وانطلاقا من مسئوليتهم عن استتباب الأمن فى المنطقة، حتى خرج جيش المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وما إن علمت «الروم» حتى فر جيشهم وتركوا الغساسنة وحدهم مكشوفين فى مواجهة المسلمين. وهنا أدرك الغساسنة خطأهم وتورطهم فى مكيدة الروم، فنهضوا يستقبلون جيش المسلمين، ويعلنون اعتذارهم عن تهديد الأمن واعتذارهم الأكبر عن تورطهم فيما صنعه الروم من فتنة لا داعى لها. وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارهم، ثم ها هم الغساسنة يعلنون تبرؤهم من أى ارتباط مع الروم كما أعلنوا أنهم كانوا يدفعون «جزية سنوية» للروم نظير حمايتهم وقرروا قطع علاقتهم بالروم وطلبوا الدخول فى معاهدة دفاع مشترك مع المسلمين على أن يساهموا فى ميزانية الجيش بالمبلغ الذى كانوا يسددونه للروم. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ذلك وأمنهم فى وطنهم. وقد عبرت كتب السيرة عن تلك الأحداث بقولها: فنفر الرومان، وانكشف الغساسنة فاعتذروا وطلبوا الدخول فى ولاء للمسلمين، فقبل الرسول منهم ما طلبوه واكتفى بما عرضوه. ثم تقول المراجع وقد رجع ولم يلق كيدا.
ــ3ــ
هذا هو الحدث (العسكرى/ السياسى) الشهير فى «تبوك» لكن «القول النبوى» الأكثر شهرة فى هذا الصدد كان حينما ذكرت جزيرة العرب فقال صلى الله عليه وسلم قولة مشهورة: «لا يجتمع فيها دينان!!!»، فهذا قول صحيح وهو مصاحب لفعل صحيح هو «التحالف مع الغساسنة» والغساسنة يسكنون الجزيرة فما معنى ذلك؟ المعنى واضح وصريح فرسول الله صلى الله عليه وسلم ــ حاشاه ــ لا يكذب ولا ينافق من ناحية، وهو أيضا لا يغير فى الشرع والمنهاج من ناحية أخرى.
فالواضح أن المقصود من عبارته أن الوطن الواحد أو الكيان الواحد لا يصلح أن يكون فيه (عقدان سياسيان) إذ لابد أن يوجد عقد واحد للسلطة العامة ــ سلطة الدفاع عن الإقليم.. ولم ير فقهاء الصحابة أى معنى لذلك القول غير ما قدمناه..
ــ4ــ
فالأمة بمكوناتها الداخلية وتحالفاتها الخارجية أمة واحدة تخضع لدستور سياسى واحد، كان هذا الدستور دستور دولة أو دستور تحالف أو دستور منظمة إقليمية معلن. فإذا لم يوجد فى الواقع «كيان أمة» تحفظ للإنسان كرامته وحريته فليس هناك أمل فى أى خطاب دعوى.. بل سيبقى العالم ــ كما نعايشه ــ عالم مضطرب ومن أبرز أسباب اضطرابه غياب المفهوم الشرعى لمصطلح «الأمة» وما يقوم عليه من قواعد وإجراءات داخلية شفافة، وأيضا علاقات عالمية منفتحة تتعاون فى الإعمار والسلام.
ــ1ــ
فالأمة المسلمة يتسع إقليمها لكل إنسان بقواعد النظام العام للمجتمع ــ بغض النظر عن معتقده وطقوسه. وقد ذكرنا فى الحلقة السابقة أن يهود قينقاع والنضير وقريظة كانوا يسكنون المدينة، وتعودت كل قبيلة منهم الإقامة فى «حى مغلق عليها»، وقد شملهم جميعا دستور المدينة، ولولا خيانتهم لذلك الدستور لبقوا إلى يومنا هذا فى المدينة. ونزيد اليوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود من المسيحيين وغيرهم، ليس فى مجتمعه فحسب، بل فى مسجده يقيمون فيه إقامة كاملة حتى يطلبوا الرحيل. حدث ذلك مع وفد نجران، ووفد الحبشة إذ بقى كل وفد منهم فى المسجد قرابة شهر أو أكثر، وفى مشهور الأخبار أنهم أقاموا صلواتهم وطقوسهم داخل المسجد على مرأى ومسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم ينكر عليهم أحد.
ــ2ــ
والتاريخ يحدثنا أن دولة الروم حاولت محاولة فاشلة أن تجرح دولة المسلمين، وتصمها بالعصبية، فاستدرج الروم «قبيلة الغساسنة» وهى قبيلة مسيحية كانت تقيم على حدود الجزيرة قرب «تبوك»، وحرضوا الغساسنة على قطع الطريق وإشاعة الفوضى فى المنطقة وذلك فيما يشبه «نصب فخ» للدولة ودستورها من ناحية، ولتدبير موقعة بين المسلمين وبين جيش الروم ليهزمهم. وما إن علم المسلمون بذلك، وانطلاقا من مسئوليتهم عن استتباب الأمن فى المنطقة، حتى خرج جيش المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وما إن علمت «الروم» حتى فر جيشهم وتركوا الغساسنة وحدهم مكشوفين فى مواجهة المسلمين. وهنا أدرك الغساسنة خطأهم وتورطهم فى مكيدة الروم، فنهضوا يستقبلون جيش المسلمين، ويعلنون اعتذارهم عن تهديد الأمن واعتذارهم الأكبر عن تورطهم فيما صنعه الروم من فتنة لا داعى لها. وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارهم، ثم ها هم الغساسنة يعلنون تبرؤهم من أى ارتباط مع الروم كما أعلنوا أنهم كانوا يدفعون «جزية سنوية» للروم نظير حمايتهم وقرروا قطع علاقتهم بالروم وطلبوا الدخول فى معاهدة دفاع مشترك مع المسلمين على أن يساهموا فى ميزانية الجيش بالمبلغ الذى كانوا يسددونه للروم. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ذلك وأمنهم فى وطنهم. وقد عبرت كتب السيرة عن تلك الأحداث بقولها: فنفر الرومان، وانكشف الغساسنة فاعتذروا وطلبوا الدخول فى ولاء للمسلمين، فقبل الرسول منهم ما طلبوه واكتفى بما عرضوه. ثم تقول المراجع وقد رجع ولم يلق كيدا.
ــ3ــ
هذا هو الحدث (العسكرى/ السياسى) الشهير فى «تبوك» لكن «القول النبوى» الأكثر شهرة فى هذا الصدد كان حينما ذكرت جزيرة العرب فقال صلى الله عليه وسلم قولة مشهورة: «لا يجتمع فيها دينان!!!»، فهذا قول صحيح وهو مصاحب لفعل صحيح هو «التحالف مع الغساسنة» والغساسنة يسكنون الجزيرة فما معنى ذلك؟ المعنى واضح وصريح فرسول الله صلى الله عليه وسلم ــ حاشاه ــ لا يكذب ولا ينافق من ناحية، وهو أيضا لا يغير فى الشرع والمنهاج من ناحية أخرى.
فالواضح أن المقصود من عبارته أن الوطن الواحد أو الكيان الواحد لا يصلح أن يكون فيه (عقدان سياسيان) إذ لابد أن يوجد عقد واحد للسلطة العامة ــ سلطة الدفاع عن الإقليم.. ولم ير فقهاء الصحابة أى معنى لذلك القول غير ما قدمناه..
ــ4ــ
فالأمة بمكوناتها الداخلية وتحالفاتها الخارجية أمة واحدة تخضع لدستور سياسى واحد، كان هذا الدستور دستور دولة أو دستور تحالف أو دستور منظمة إقليمية معلن. فإذا لم يوجد فى الواقع «كيان أمة» تحفظ للإنسان كرامته وحريته فليس هناك أمل فى أى خطاب دعوى.. بل سيبقى العالم ــ كما نعايشه ــ عالم مضطرب ومن أبرز أسباب اضطرابه غياب المفهوم الشرعى لمصطلح «الأمة» وما يقوم عليه من قواعد وإجراءات داخلية شفافة، وأيضا علاقات عالمية منفتحة تتعاون فى الإعمار والسلام.