أ
كثر من ستة عقود (تحديدًا، 64 عامًا منذ يوليو 1952، وحتى يوليو 2016) ومصر تتحول من مرحلة فساد في دولة إلى دولة الفساد، وبعد أن كان الفساد في بعض قطاعات الدولة ضرب الفساد الدولة كلها حتى أصبح في مصر للفساد دولة لها أركانها، وأعرافها، وتبسط هيمنتها على مصر من أدناها إلى أقصاها.
ففي الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 2016، كانت الذكرى الـ 64 لأحداث 1952 التي بدأت حركة ثم تحولت انقلابًا بعد استيلاء الضباط الأحرار على قيادة الجيش والسلطة، ثم أطلقوا عليها بعد ذلك ثورة، لتنتقل مصر بعدها من حكم أسرة ملكي وراثي إلى حكم أسرة مؤسسة عسكرية، تعيش مصر نتاجه وتداعياته.
كان من الأسباب التي برر بها الضباط قيامهم بالانقلاب على الملك فاروق وقتها انتشار الرشوة والفساد وتضافر عوامله، كما جاء في أول بيان عبر الإذاعة المصرية، وكان هناك مبادئ ستة تم الترويج لها، مثلت شعارات سياسة الثورة بعد ذلك وهي القضاء على الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، غير أن السؤال الحاضر دومًا: ماذا تحقق من ذلك خلال أكثر من ستة عقود، خاصة أن النتائج والمآلات جاءت عكس ما رُوج من شعارات؟
مفارقة ذات دلالة
في الثامن والعشرين من يوليو/ تموز 2016، وبعد ثلاث سنوات من الثالث من يوليو/ تموز 2013، وسنتين من حكم عبدالفتاح السيسي أصدرت محكمة جنح القاهرة الجديدة حكمًا لم يكن مفاجأة لكثيرين في ظل المعركة التي تقودها دولة في مواجهة رجل يعد المحارب الأول للفساد في مصر، حيث قضت المحكمة بالحبس سنة وغرامة عشرين ألف جنيه وكفالة عشرة آلاف جنيه بحق المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات - أكبر جهاز رقابي في مصر -، وذلك بدعوى اتهامه بنشر أخبار كاذبة عن حجم الفساد البالغ 600 مليار جنيه بحسب تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات.
هذا الحكم، الذي جاء بعد حملة شرسة قادتها دولة الفساد طلبًا لرأس المستشار جنينة وتمخضت عن قرار بعزله من منصبه، يحمل دلالات عميقة وخطيرة إذ يؤكد أن للفساد دولة، لها مؤسساتها ورجالها وقيمها وأحكامها.
الاستبداد وصناعة الفساد
قبل بداية عصر جمهورية الضباط في 23 يوليو/ تموز 1952 كانت الفترة الملكية - خلافًا لما تم الترويج له، وحسب العديد من المصادر والمراجع - أكثر حرية مما بعدها، ورغم أن مصر كانت تحت الاحتلال العسكري البريطاني إلا أن المناخ العام والنظام السياسي كان ديمقراطيًا يقوم على تداول السلطة وتعددية حزبية بأحزاب قوية، وانعكس ذلك على الوضع العام في مصر في شتى المجالات، خاصة على الاقتصاد بشكل تنموي ومستدام، حتى إن تقريرًا لهيئة الأمم المتحدة وهيئاتها بعد الحرب العالمية الثانية رشح مصر ومعها اليابان لأن تلحقا بدول العالم الأول، وبحسب التقرير وقتها فإن فرصة مصر كانت أفضل كثيرًا نظرًا لما لحق اليابان من دمار بسبب الحرب العالمية الثانية.
لقد كان الفساد موجودًا قبل 23 يوليو/ تموز 1952 لكنه كان ضئيلاً للغاية مقارنة بما بعدها، حيث تحول الفساد من مجرد انحرافات فردية قابلة للاتساع إلى بنية مؤسسية متكاملة لها آلياتها وأدواتها وتشريعاتها وأعرافها، بلغت قمة ذروتها في الفترة التي يعيشها المصريون الآن.
الاستعمار والفساد
النظم المحلية المستبدة في غالبيتها تمثل امتدادًا للاستعمار الأجنبي الذي غادر بسلاحه وعتاده ولكنه ترك وكلاء محليين يعملون وفقًا لأهدافه واستراتيجياته، بما يعنى أن الاحتلال المباشر تم استبداله بالاحتلال بالوكالة الذي يقوم عليه نظم مستبدة تمارس منهجيات الاحتلال وتحقق أهدافه.
لقد أصبح الفساد يمثل قاعدة أساسية للاستعمار الحديث، الذي ورث الاستعمار الحربي القديم ليهيمن الاستعمار الحديث عبر توطين الفساد ودعمه ويجني من وراء ذلك تفوقًا، ويحقق أرباحًا مادية، ويستنزف ثروات الشعوب عبر وكلائه المحليين الذين حققوا له أكثر مما كان يصبو إليه، ولتظل إرادة الشعوب مرهونة بضغوط فقرها واحتياجاتها وتخلفها، وترضى بالفتات، وفي سبيل ذلك استحدث الاستعمار الحديث أدواته وهيئاته للهيمنة محليًا وإقليميًا ودوليًا.
المشهد في مصر بعد 1952 مرورًا بتطوراته المختلفة في عصر عبد الناصر والسادات ومبارك وانتهاءً بفترة السيسي الحالية يمثل نموذجًا واضحًا للعلاقة بين الفساد والاستبداد والاستعمار بما يفسر ما آلت إليه أحوال مصر على مدار 64 عامًا حتى أصبح الفساد فيها دولة.
لقد مر الفساد في مصر بمراحل مختلفة بعد 1952، فقد كان في عهد عبد الناصر فساد رجالات حكم من العسكريين، وغيرهم ممن تولوا مناصب في تلك الفترة، كما كان فساد إدارات وهيئات تابعة للدولة، وكانت حقبة السادات مرحلة هامة في تطور الفساد في مصر حيث دشنت مرحلة الانفتاح الإثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة والنفوذ والرشوة والوساطة والمحسوبية.
وجاءت فترة مبارك لتمثل الانطلاقة الواسعة لدولة الفساد في مصر حيث تمت عملية مأسسة للفساد بكل ما تعنيه الكلمة، وليتأكد تحول الفساد إلى بنية مؤسسية متكاملة متخذًا في سبيل ذلك مجموعة من الوسائل تمثلت في سياسات ممنهجه لإفقار الفئات محدودة الدخل، وإفساد الدولة ومؤسساتها والتابعين لها، طالت المؤسسة البرلمانية بغرفتيها الشورى والشعب، وكذلك المؤسسات العسكرية، والأمنية، والصحفية والإعلامية، والنقابات، وتشكلت قواعد عرفية بين جماعات الفساد والمنخرطين فيها تحدد لأعضائها الالتزامات المتبادلة ومناطق النفوذ والسيطرة.
يضاف إلى ذلك فإن جماعات النفوذ، والمصالح تسللت إلى قمة هرم السلطة السياسية، وتمددت داخل الأجهزة الرقابية والتشريعية، وكانت الآلية الأخطر هي تسخير التشريع لتوطين الفساد في مصر عبر حزمة من التشريعات والقوانين التي أضعفت منظمات المجتمع المدني وكرست هيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات لمصلحة جماعات النفوذ والمصالح ووطدت الفساد وشرعنته.
غير أن الفترة الأخيرة بعد الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن شهدت تطورًا خطيرًا للغاية تمثل في مجموعة من الإجراءات والقرارات والتشريعات غير المسبوقة، وفي ظل غياب سلطة تشريعية أصدر عدلي منصور 28 قرارًا بقانون تعد من أخطر التشريعات خلال 333 يومًا قضاها كرئيس مؤقت للبلاد، لتصدر بعد ذلك مئات القوانين التي بلغت حسب تقرير المركز الوطني للاستشارات البرلمانية 494 قرارًا وقانونًا أصدرها عبدالفتاح السيسي منذ يونيو/ حزيران 2014 كان منها 263 قرارًا بقانون خلال الستة أشهر الأولى، أي بمعدل ثلاثة قوانين كل 48 ساعة، وهذه التشريعات في كثير منها فتحت الباب على أوسعه للفساد جهارًا نهارًا ليتلاعب بثروات البلاد ومقدراتها ولتترسخ دولة الفساد عبر حصار المعارضة وتقنين الفساد.
وقد كان من القوانين التي أصدرها السيسي، والتي تحمل دلالة واضحة على التوجه لترسيخ دولة الفساد، وأنها هي التي تحكم البلاد ذلك القانون رقم 89 لسنة 2015، الذي يمنح السيسي الحق في إعفاء رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، والذي قيل إنه صدر خصيصًا حتى يتم بموجبه، وبالمخالفة للدستور المصري، عزل المستشار هشام جنينة من منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بدعوى تصريحاته بأن الفساد بمؤسسات الدولة بلغت قيمته 600 مليار جنيه.
مصر إلى أين؟
في ظل استقرار الفساد وتضافر عوامله وتوطنه يبقى السؤال إلى أين تسير مصر بعد 64 عامًا منذ 23 يوليو/ تموز 1952خاصة أن المقارنات بين فترة ما قبل هذا التاريخ وما بعده تطرح نفسها في ظل الواقع والمآلات التي صارت إليها البلاد؟
إن مصر قبل 64 عامًا في ظل حكم الملكية كما ذكر الخبراء والمؤرخون ورغم وجود احتلال أجنبي وصل الاقتصاد فيها إلى ذروته، حيث وصل سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الجنيه إلى 25 قرشًا، والجنيه الذهبي نحو 98 قرشًا، وكانت معدلات البطالة أقل من 0.2%، ووصل الأمر إلى إقراض الخزانة المصرية للمملكة المتحدة (دولة الاحتلال وقتها) ما يعادل مبلغ 29 مليار دولار لم تستردها الدولة حتى تاريخه.
أما التعليم فقد كان في مصر منظومة تعليمية ذكر الخبراء أنها كانت تواكب نظم التعليم العالمية المتقدمة في ذلك الوقت، علمًا بأن الدول والممالك تعتمد في تحقيق نهضتها على منظومة التعليم والاقتصاد إضافة لغيرها من العوامل.
غير أن الواقع الذي صارت إليه مصر في شتى المجالات، وفي ظل هيمنة دولة الفساد لا يمت بصلة لما كانت عليه مصر قبل 64 عامًا رغم وجود احتلال خارجي في أرضها، لقد أصبحت مصر بعد 1952 تعانى من اختلالات كبرى لعل أحد أبرز تجلياتها تهاوي قيمة الجنيه أمام الدولار وغيره من العملات، واجتماعيًا ذكر تقرير سابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن مصر بها مليون نسمة يعيشون بلا مأوى وأن هناك حوالي 1032 منطقة عشوائية في جميع المحافظات المصرية، كما أشار إلى أن معظم هؤلاء مصابون بأمراض الصدر والحساسية والأنيميا والأمراض الجلدية، إضافة إلى أن 45% من سكان مصر تحت خط الفقر، وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية فمصر ثالث أكبر سوق في العالم لتجارة الأعضاء البشرية وبها 300 ألف مريض بالسرطان ونسب مرتفعة من أمراض الدرن والقلب والعيون وأمراض الجهاز التنفسي.
غير أنه لا يمكن أن نحمل فترة ما بعد الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن المسؤولية وحدها عما صارت إليه الأمور في مصر، حيث إنها نتاج أكثر من ستة عقود كاملة، إلا أن الجرم الأكبر لهذه الفترة أنها جاءت لتطيح بآمال ثورة الخامس والعشرين من يناير في الإصلاح، والقضاء على دولة الفساد، وتضح دماء جديدة في أوصالها وتشرعن وجودها لتبدو ملامح المستقبل شديدة الضبابية في ظل أوضاع غير مسبوقة تعيشها الدولة المصرية.
لقد أصبح الفساد في مصر دولة تكلف البلاد أكثر من 100 مليار جنيه سنويًا لتحتل مصر مراكزًا متأخرة في تقارير الشفافية العالمية، وتُصبح محل تحذير المنظمات الدولية للمستثمرين بسبب الفساد فيها، ورغم انضمام مصر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بقرار جمهوري رقم 307 لسنة 2004 الموقعة بتاريخ 9 ديسمبر 2003 والذي تقرر العمل به اعتبارًا من تاريخ 14 أغسطس 2005، إلا أن وقائع الفساد جعلت مصر تحتل المرتبة 117 في مؤشر مدركات الفساد في نهاية ديسمبر 2014، من 176 دولة.
خلاصة وختام
ورغم ما سبق بيانه، وشواهد الواقع في السنوات الثلاثة الماضية ما بعد يوليو/ تموز 2013 يبقى سؤال حول إمكانية تغيير واقع دولة الفساد، وتجنيب مصر طريق الدولة الفاشلة، وهل من الممكن لدولة تعاني من فساد أن تحقق تنمية وأداءً اقتصاديًا عاليًا؟
الإجابة من وجهة نظر البعض توجد في دول غير مصر ومن واقع التقارير الدولية فهناك دول كالصين والهند والبرازيل وتركيا لديها فساد بنسب متفاوتة ولكن حققت طفرات تنموية واقتصادية واستثمارية مما يدل على أن العلاقة بين وجود نسبة فساد والنمو الاقتصادي ليست علاقة ميكانيكية مباشرة ولكن تتضافر عوامل أخرى غير الفساد كالسياسات العامة في التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية ودور الدولة في الاستثمار، وهناك تجارب لدول آسيوية استطاعت خلق مساحات لتحقيق إنجازات رغم وجود نسب فساد مرتفعة.
أما ما يتعلق بالفساد في مصر فأعتقد أن الأمر مختلف لأن الفساد فيها متعدد المنابت من استبداد محلي واستعمار أجنبي وانهيار قيمي، فهو فساد تمخض عن استبداد محلي يمثل امتدادًا ووكيلاً للمستبد الدولي (الاحتلال الأجنبي) ويقوم نيابة عنه باستنزاف خيرات البلاد ومقدراتها وكذلك نتيجة لخلل المنظومة القيمية، وثقافة فساد ضربت جذورها في مناح شتى، يضاف إلى ذلك المشهد السياسي، وما حدث من تحول دراماتيكي في العقيدة الاستراتيجية للنظام المصري بعد 2013 مما عمَّق من تبعية مصر وأفقدها إرادتها السياسية وبنى سدودًا جديدة تحول بينها وبين تحررها.
وهنا تأتي أهمية التأكيد على أن الفساد في مصر ليس قدرًا محتومًا، ولكنه في حاجة إلى مقاومة شاملة وإرادة سياسية وشعبية ترفع عن كاهل مصر ميراث 64 عامًا، حتى تنتقل مصر إلى الوضع الاقتصادي والسياسي والقانوني والإنساني الذي يليق بها كعمق تاريخي وحضاري وإنساني مبهر.
المواضيع:
كثر من ستة عقود (تحديدًا، 64 عامًا منذ يوليو 1952، وحتى يوليو 2016) ومصر تتحول من مرحلة فساد في دولة إلى دولة الفساد، وبعد أن كان الفساد في بعض قطاعات الدولة ضرب الفساد الدولة كلها حتى أصبح في مصر للفساد دولة لها أركانها، وأعرافها، وتبسط هيمنتها على مصر من أدناها إلى أقصاها.
ففي الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 2016، كانت الذكرى الـ 64 لأحداث 1952 التي بدأت حركة ثم تحولت انقلابًا بعد استيلاء الضباط الأحرار على قيادة الجيش والسلطة، ثم أطلقوا عليها بعد ذلك ثورة، لتنتقل مصر بعدها من حكم أسرة ملكي وراثي إلى حكم أسرة مؤسسة عسكرية، تعيش مصر نتاجه وتداعياته.
كان من الأسباب التي برر بها الضباط قيامهم بالانقلاب على الملك فاروق وقتها انتشار الرشوة والفساد وتضافر عوامله، كما جاء في أول بيان عبر الإذاعة المصرية، وكان هناك مبادئ ستة تم الترويج لها، مثلت شعارات سياسة الثورة بعد ذلك وهي القضاء على الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية، غير أن السؤال الحاضر دومًا: ماذا تحقق من ذلك خلال أكثر من ستة عقود، خاصة أن النتائج والمآلات جاءت عكس ما رُوج من شعارات؟
مفارقة ذات دلالة
في الثامن والعشرين من يوليو/ تموز 2016، وبعد ثلاث سنوات من الثالث من يوليو/ تموز 2013، وسنتين من حكم عبدالفتاح السيسي أصدرت محكمة جنح القاهرة الجديدة حكمًا لم يكن مفاجأة لكثيرين في ظل المعركة التي تقودها دولة في مواجهة رجل يعد المحارب الأول للفساد في مصر، حيث قضت المحكمة بالحبس سنة وغرامة عشرين ألف جنيه وكفالة عشرة آلاف جنيه بحق المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات - أكبر جهاز رقابي في مصر -، وذلك بدعوى اتهامه بنشر أخبار كاذبة عن حجم الفساد البالغ 600 مليار جنيه بحسب تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات.
هذا الحكم، الذي جاء بعد حملة شرسة قادتها دولة الفساد طلبًا لرأس المستشار جنينة وتمخضت عن قرار بعزله من منصبه، يحمل دلالات عميقة وخطيرة إذ يؤكد أن للفساد دولة، لها مؤسساتها ورجالها وقيمها وأحكامها.
الاستبداد وصناعة الفساد
قبل بداية عصر جمهورية الضباط في 23 يوليو/ تموز 1952 كانت الفترة الملكية - خلافًا لما تم الترويج له، وحسب العديد من المصادر والمراجع - أكثر حرية مما بعدها، ورغم أن مصر كانت تحت الاحتلال العسكري البريطاني إلا أن المناخ العام والنظام السياسي كان ديمقراطيًا يقوم على تداول السلطة وتعددية حزبية بأحزاب قوية، وانعكس ذلك على الوضع العام في مصر في شتى المجالات، خاصة على الاقتصاد بشكل تنموي ومستدام، حتى إن تقريرًا لهيئة الأمم المتحدة وهيئاتها بعد الحرب العالمية الثانية رشح مصر ومعها اليابان لأن تلحقا بدول العالم الأول، وبحسب التقرير وقتها فإن فرصة مصر كانت أفضل كثيرًا نظرًا لما لحق اليابان من دمار بسبب الحرب العالمية الثانية.
لقد كان الفساد موجودًا قبل 23 يوليو/ تموز 1952 لكنه كان ضئيلاً للغاية مقارنة بما بعدها، حيث تحول الفساد من مجرد انحرافات فردية قابلة للاتساع إلى بنية مؤسسية متكاملة لها آلياتها وأدواتها وتشريعاتها وأعرافها، بلغت قمة ذروتها في الفترة التي يعيشها المصريون الآن.
الاستعمار والفساد
النظم المحلية المستبدة في غالبيتها تمثل امتدادًا للاستعمار الأجنبي الذي غادر بسلاحه وعتاده ولكنه ترك وكلاء محليين يعملون وفقًا لأهدافه واستراتيجياته، بما يعنى أن الاحتلال المباشر تم استبداله بالاحتلال بالوكالة الذي يقوم عليه نظم مستبدة تمارس منهجيات الاحتلال وتحقق أهدافه.
لقد أصبح الفساد يمثل قاعدة أساسية للاستعمار الحديث، الذي ورث الاستعمار الحربي القديم ليهيمن الاستعمار الحديث عبر توطين الفساد ودعمه ويجني من وراء ذلك تفوقًا، ويحقق أرباحًا مادية، ويستنزف ثروات الشعوب عبر وكلائه المحليين الذين حققوا له أكثر مما كان يصبو إليه، ولتظل إرادة الشعوب مرهونة بضغوط فقرها واحتياجاتها وتخلفها، وترضى بالفتات، وفي سبيل ذلك استحدث الاستعمار الحديث أدواته وهيئاته للهيمنة محليًا وإقليميًا ودوليًا.
المشهد في مصر بعد 1952 مرورًا بتطوراته المختلفة في عصر عبد الناصر والسادات ومبارك وانتهاءً بفترة السيسي الحالية يمثل نموذجًا واضحًا للعلاقة بين الفساد والاستبداد والاستعمار بما يفسر ما آلت إليه أحوال مصر على مدار 64 عامًا حتى أصبح الفساد فيها دولة.
لقد مر الفساد في مصر بمراحل مختلفة بعد 1952، فقد كان في عهد عبد الناصر فساد رجالات حكم من العسكريين، وغيرهم ممن تولوا مناصب في تلك الفترة، كما كان فساد إدارات وهيئات تابعة للدولة، وكانت حقبة السادات مرحلة هامة في تطور الفساد في مصر حيث دشنت مرحلة الانفتاح الإثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة والنفوذ والرشوة والوساطة والمحسوبية.
وجاءت فترة مبارك لتمثل الانطلاقة الواسعة لدولة الفساد في مصر حيث تمت عملية مأسسة للفساد بكل ما تعنيه الكلمة، وليتأكد تحول الفساد إلى بنية مؤسسية متكاملة متخذًا في سبيل ذلك مجموعة من الوسائل تمثلت في سياسات ممنهجه لإفقار الفئات محدودة الدخل، وإفساد الدولة ومؤسساتها والتابعين لها، طالت المؤسسة البرلمانية بغرفتيها الشورى والشعب، وكذلك المؤسسات العسكرية، والأمنية، والصحفية والإعلامية، والنقابات، وتشكلت قواعد عرفية بين جماعات الفساد والمنخرطين فيها تحدد لأعضائها الالتزامات المتبادلة ومناطق النفوذ والسيطرة.
يضاف إلى ذلك فإن جماعات النفوذ، والمصالح تسللت إلى قمة هرم السلطة السياسية، وتمددت داخل الأجهزة الرقابية والتشريعية، وكانت الآلية الأخطر هي تسخير التشريع لتوطين الفساد في مصر عبر حزمة من التشريعات والقوانين التي أضعفت منظمات المجتمع المدني وكرست هيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات لمصلحة جماعات النفوذ والمصالح ووطدت الفساد وشرعنته.
غير أن الفترة الأخيرة بعد الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن شهدت تطورًا خطيرًا للغاية تمثل في مجموعة من الإجراءات والقرارات والتشريعات غير المسبوقة، وفي ظل غياب سلطة تشريعية أصدر عدلي منصور 28 قرارًا بقانون تعد من أخطر التشريعات خلال 333 يومًا قضاها كرئيس مؤقت للبلاد، لتصدر بعد ذلك مئات القوانين التي بلغت حسب تقرير المركز الوطني للاستشارات البرلمانية 494 قرارًا وقانونًا أصدرها عبدالفتاح السيسي منذ يونيو/ حزيران 2014 كان منها 263 قرارًا بقانون خلال الستة أشهر الأولى، أي بمعدل ثلاثة قوانين كل 48 ساعة، وهذه التشريعات في كثير منها فتحت الباب على أوسعه للفساد جهارًا نهارًا ليتلاعب بثروات البلاد ومقدراتها ولتترسخ دولة الفساد عبر حصار المعارضة وتقنين الفساد.
وقد كان من القوانين التي أصدرها السيسي، والتي تحمل دلالة واضحة على التوجه لترسيخ دولة الفساد، وأنها هي التي تحكم البلاد ذلك القانون رقم 89 لسنة 2015، الذي يمنح السيسي الحق في إعفاء رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، والذي قيل إنه صدر خصيصًا حتى يتم بموجبه، وبالمخالفة للدستور المصري، عزل المستشار هشام جنينة من منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بدعوى تصريحاته بأن الفساد بمؤسسات الدولة بلغت قيمته 600 مليار جنيه.
مصر إلى أين؟
في ظل استقرار الفساد وتضافر عوامله وتوطنه يبقى السؤال إلى أين تسير مصر بعد 64 عامًا منذ 23 يوليو/ تموز 1952خاصة أن المقارنات بين فترة ما قبل هذا التاريخ وما بعده تطرح نفسها في ظل الواقع والمآلات التي صارت إليها البلاد؟
إن مصر قبل 64 عامًا في ظل حكم الملكية كما ذكر الخبراء والمؤرخون ورغم وجود احتلال أجنبي وصل الاقتصاد فيها إلى ذروته، حيث وصل سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الجنيه إلى 25 قرشًا، والجنيه الذهبي نحو 98 قرشًا، وكانت معدلات البطالة أقل من 0.2%، ووصل الأمر إلى إقراض الخزانة المصرية للمملكة المتحدة (دولة الاحتلال وقتها) ما يعادل مبلغ 29 مليار دولار لم تستردها الدولة حتى تاريخه.
أما التعليم فقد كان في مصر منظومة تعليمية ذكر الخبراء أنها كانت تواكب نظم التعليم العالمية المتقدمة في ذلك الوقت، علمًا بأن الدول والممالك تعتمد في تحقيق نهضتها على منظومة التعليم والاقتصاد إضافة لغيرها من العوامل.
غير أن الواقع الذي صارت إليه مصر في شتى المجالات، وفي ظل هيمنة دولة الفساد لا يمت بصلة لما كانت عليه مصر قبل 64 عامًا رغم وجود احتلال خارجي في أرضها، لقد أصبحت مصر بعد 1952 تعانى من اختلالات كبرى لعل أحد أبرز تجلياتها تهاوي قيمة الجنيه أمام الدولار وغيره من العملات، واجتماعيًا ذكر تقرير سابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن مصر بها مليون نسمة يعيشون بلا مأوى وأن هناك حوالي 1032 منطقة عشوائية في جميع المحافظات المصرية، كما أشار إلى أن معظم هؤلاء مصابون بأمراض الصدر والحساسية والأنيميا والأمراض الجلدية، إضافة إلى أن 45% من سكان مصر تحت خط الفقر، وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية فمصر ثالث أكبر سوق في العالم لتجارة الأعضاء البشرية وبها 300 ألف مريض بالسرطان ونسب مرتفعة من أمراض الدرن والقلب والعيون وأمراض الجهاز التنفسي.
غير أنه لا يمكن أن نحمل فترة ما بعد الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن المسؤولية وحدها عما صارت إليه الأمور في مصر، حيث إنها نتاج أكثر من ستة عقود كاملة، إلا أن الجرم الأكبر لهذه الفترة أنها جاءت لتطيح بآمال ثورة الخامس والعشرين من يناير في الإصلاح، والقضاء على دولة الفساد، وتضح دماء جديدة في أوصالها وتشرعن وجودها لتبدو ملامح المستقبل شديدة الضبابية في ظل أوضاع غير مسبوقة تعيشها الدولة المصرية.
لقد أصبح الفساد في مصر دولة تكلف البلاد أكثر من 100 مليار جنيه سنويًا لتحتل مصر مراكزًا متأخرة في تقارير الشفافية العالمية، وتُصبح محل تحذير المنظمات الدولية للمستثمرين بسبب الفساد فيها، ورغم انضمام مصر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بقرار جمهوري رقم 307 لسنة 2004 الموقعة بتاريخ 9 ديسمبر 2003 والذي تقرر العمل به اعتبارًا من تاريخ 14 أغسطس 2005، إلا أن وقائع الفساد جعلت مصر تحتل المرتبة 117 في مؤشر مدركات الفساد في نهاية ديسمبر 2014، من 176 دولة.
خلاصة وختام
ورغم ما سبق بيانه، وشواهد الواقع في السنوات الثلاثة الماضية ما بعد يوليو/ تموز 2013 يبقى سؤال حول إمكانية تغيير واقع دولة الفساد، وتجنيب مصر طريق الدولة الفاشلة، وهل من الممكن لدولة تعاني من فساد أن تحقق تنمية وأداءً اقتصاديًا عاليًا؟
الإجابة من وجهة نظر البعض توجد في دول غير مصر ومن واقع التقارير الدولية فهناك دول كالصين والهند والبرازيل وتركيا لديها فساد بنسب متفاوتة ولكن حققت طفرات تنموية واقتصادية واستثمارية مما يدل على أن العلاقة بين وجود نسبة فساد والنمو الاقتصادي ليست علاقة ميكانيكية مباشرة ولكن تتضافر عوامل أخرى غير الفساد كالسياسات العامة في التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية ودور الدولة في الاستثمار، وهناك تجارب لدول آسيوية استطاعت خلق مساحات لتحقيق إنجازات رغم وجود نسب فساد مرتفعة.
أما ما يتعلق بالفساد في مصر فأعتقد أن الأمر مختلف لأن الفساد فيها متعدد المنابت من استبداد محلي واستعمار أجنبي وانهيار قيمي، فهو فساد تمخض عن استبداد محلي يمثل امتدادًا ووكيلاً للمستبد الدولي (الاحتلال الأجنبي) ويقوم نيابة عنه باستنزاف خيرات البلاد ومقدراتها وكذلك نتيجة لخلل المنظومة القيمية، وثقافة فساد ضربت جذورها في مناح شتى، يضاف إلى ذلك المشهد السياسي، وما حدث من تحول دراماتيكي في العقيدة الاستراتيجية للنظام المصري بعد 2013 مما عمَّق من تبعية مصر وأفقدها إرادتها السياسية وبنى سدودًا جديدة تحول بينها وبين تحررها.
وهنا تأتي أهمية التأكيد على أن الفساد في مصر ليس قدرًا محتومًا، ولكنه في حاجة إلى مقاومة شاملة وإرادة سياسية وشعبية ترفع عن كاهل مصر ميراث 64 عامًا، حتى تنتقل مصر إلى الوضع الاقتصادي والسياسي والقانوني والإنساني الذي يليق بها كعمق تاريخي وحضاري وإنساني مبهر.
المواضيع: