د. أمل صقر
نائب مدير مركز المستقبل للشؤون التنفيذية
تاريخ: 2016-10-03
دخلت العلاقات السعودية - الأمريكية مرحلة جديدة من التوتر في أعقاب إقرار الكونجرس لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب Justice Against Sponsors of Terrorism Act والذي يُعرف اختصاراً باسم قانون "جاستا" JASTA، بعد أن صوتت الهيئة التشريعية الأمريكية يوم 28 سبتمبر الماضي على إبطال الفيتو الرئاسي ضد القانون.
وبالتالي يعد هذا القانون نقطة فاصلة في مسيرة العلاقات بين واشنطن والرياض، التي عانت خلال الفترة الأخيرة حالة من عدم الثقة، خاصةً مع موقف الإدارة الأمريكية من إيران وإبرام الاتفاق النووي معها. وربما تمثل التطورات الأخيرة، بعد خطوة الكونجرس، ذروة التوتر في هذه العلاقات، حال التصعيد ضد المملكة، مما قد يُنبئ ببدء حقبة جديدة سيُطلق عليها "ما بعد جاستا".
قانون مثير للجدل
على الرغم من كون قانون "جاستا" لا ينص صراحةً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ولا يشير إلى المملكة العربية السعودية، فإن سياق الأحداث يُوحي ضمناً بذلك. فالتصويت على القانون الذي تم مؤخراً تزامن مع الذكرى السنوية الـ 15 لتلك الأحداث الإرهابية. كما أن فكرة مشروع القانون طُرحت بالأساس استجابة لدعاوى فردية مدنية رُفعت ضد المملكة في محاكم أمريكية فور وقوع تفجيرات 11 سبتمبر إبان فترة الرئيس الأسبق جورج بوش، لكنها رُفضت وقتها.
ويسمح القانون الجديد للمحاكم الأمريكية بالنظر في قضايا تتعلق بـ"مطالبات ضد أي دولة أجنبية فيما يخص الإصابات، أو القتل، أو الأضرار التي تحدث داخل الولايات المتحدة نتيجة لعمل إرهابي يُرتكب في أي مكان من قبل دولة أو مسؤول أجنبي". وتسري التعديلات التي أُدخلت على هذا القانون على الإجراءات المدنية "المُعلقة أو التي بدأت بعد تاريخ صدور هذا القانون"، و"رفع دعوى بالأضرار التي لحقت بالأشخاص أو الممتلكات في أو بعد 11 سبتمبر 2001".
وقد أثارت بنود هذا القانون جدلاً كبيراً، باعتباره يمثل انتهاكاً لمبدأ سيادة الدول، إذ أنه لا يجوز لدولة أن تصدر تشريعياً محلياً لفرض عقوبة على دولة أخرى.
يُذكر أن مشروع القانون قُدِّم في عام 2009، لكنه لم يُمرَّر، ثم أُعيد تقديمه إلى مجلس الشيوخ في نهاية عام 2015، من قِبل كل من السيناتور الديمقراطي شارلز شاومر، والسيناتور الجمهوري جون كورنيان. وحظي القانون بدعم 24 سيناتور داخل المجلس؛ منهم 12 جمهورياً، و11 ديمقراطياً، وسيناتور واحد مستقل. وبدأت أولى مراحل مناقشة القانون في مجلس الشيوخ يوم 16 سبتمبر عام 2015، وأعدت اللجان المختصة بالمجلس تقاريرها بشأنه بعد إدخال تعديلات عليه يوم 28 يناير 2016، وتم التصويت عليه في المجلس وتمريره بأغلبية الأصوات يوم 17 مايو 2016. ثم أُقر من مجلس النواب، لكن رفضه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مُستخدماً حق النقض. وعاد القانون إلى الكونجرس مرة أخرى ليُقره يوم 28 سبتمبر 2016، ويصبح القانون سارياً، بعد رفض الفيتو الرئاسي.
اعتراض سعودي
على الرغم من كون المملكة العربية السعودية غير معنية صراحةً بقانون "جاستا"، فإنها أكدت اعتراضها عليه، حيث أصدر مجلس الوزراء السعودي بياناً، في 3 أكتوبر الجاري، ذكر خلاله أن قانون "جاستا" يشكل مبعث قلق بالغ للمجتمع الدولي، على اعتبار أنه يضعف الحصانة السيادية للدول، وهو من شأنه التأثير سلباً على جميع الدول بما في ذلك الولايات المتحدة. وأعرب البيان عن أمل المملكة في أن يتخذ الكونجرس الخطوات اللازمة من أجل تجنب العواقب الخطيرة لهذا القانون.
وفي خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، عقَّب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف على القانون الأمريكي، مؤكداً أن السعودية دولة مستهدفة، إلا أنها تحصن نفسها.
وكان موقف المملكة من قانون "جاستا" واضحاً منذ التصويت الأول عليه من قِبل مجلس الشيوخ الأمريكي، حيث حذر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، في 18 مايو 2016، من أن ما يقوم به الكونجرس "سيحول العالم من القانون الدولي إلى قانون الغاب".
وفي ذات الاتجاه، سبق أن أكد عبدالله آل الشيخ، رئيس مجلس الشورى السعودي، في 14 سبتمبر 2016، أن هذا التشريع يشكل انتهاكاً لمبدأ حصانة الدول من الولاية القضائية، والذي يشدد على عدم جواز إخضاع الدولة إلى الولاية القضائية لدولة أجنبية، مُحذراً من أن إقرار مثل هذا القانون سيفتح الباب على مصراعيه للدول الأخرى لإصدار تشريعات وقوانين مشابهة، ما يؤدي إلى الإخلال بمبادئ دولية راسخة.
أوراق ضغط سعودية
يبدو أن المملكة العربية السعودية تتعرض لحالة "ابتزاز" مالي وسياسي غير مسبوقة من قِبل الولايات المتحدة، فهناك حوالي 750 مليار دولار من الاستثمارات والودائع والأصول المالية السعودية في الأسواق الأمريكية؛ من بينها 119 ملياراً سندات خزانة. ونظرياً، يمكن أن يتم وضع اليد عليها وتجميدها، في حال صدور أي تعوضيات ضحايا هجمات 11 سبتمبر، والتي يقدرها البعض بنحو 3.3 تريليون دولار.
ويبقى السؤال: ما هي أوراق الضغط التي تمتلكها المملكة في التعامل مع قانون "جاستا" المعيب؟ فالسعودية لديها بالفعل خيارات عديدة في مجابهة هذا القانون والرد عليه، ولعل من أبرزها ما يلي:
1- سحب الاستثمارات والأصول السعودية: فقد سبق لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن لوح باستخدام ورقة الاستثمارات والأصول الضخمة التي تملكها بلاده في الولايات المتحدة، وإمكانية أن تقوم المملكة بسحبها، بيد أنه عاد واعتبر إن ما قِيل ليس تهديداً، وإنما تحذير من تداعيات هذا القانون على ثقة المستثمرين في الولايات المتحدة.
وفي الحقيقة، ثمة صعوبات قد تنطوي على اللجوء إلى هذا الخيار، لأن بيع المملكة لأصولها في الولايات المتحدة أمر بالغ التعقيد، كما أن قيام الرياض بهذه الخطوة سيعني تراجعاً في أسعار هذه الأصول بصورة كبيرة، ما ينتج عنه خسائر ضخمة. وبالتالي تظل هذه الورقة الاقتصادية مؤثرة إذا استدعت الضرورة، وإن كانت صعبة التنفيذ.
2- ملف مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني: قد تضغط المملكة العربية السعودية من خلال خفض مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي مع واشنطن، بحيث يكون رد الرياض في صورة وضع المصالح الأمريكية على المحك، مثل عدم السماح بالتحليق بين الأجواء الأوروبية والآسيوية واستخدام قواعد عسكرية في المنطقة تُعدُّ ضرورية لعمليات الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وسوريا.
ويُشار إلى أنه على الرغم من فتور العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة منذ وصول أوباما إلى الحكم مطلع 2009، وخصوصاً مع تقارب واشنطن وإيران في ظل الاتفاق النووي، فإن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب لم يتأثر بفتور العلاقة السياسية. فالسعودية تمتلك قاعدة ضخمة من المعلومات الاستخباراتية في مجال مكافحة الإرهاب، التي تستفيد منها واشنطن بشكل كبير. وفي حال قررت المملكة عدم مشاركة هذه المعلومات، فستتضرر الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، ما يضعها أمام تهديدات أمنية بسبب نقص المعلومات، وهو الأمر الذي حذر منه مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان، مؤكداً أن للقانون "تداعيات خطيرة" على الأمن القومي الأمريكي.
3- إجراءات قانونية: تنص النسخة المعدلة من المشروع على حق وزير الخارجية الأمريكي في أن يؤجل أي حكم يصدر من محكمة استناداً لهذا القانون إلى أجل غير مسمى، ما يمكن اعتباره امتيازاً لصالح البيت الأبيض، يتيح ممارسة قدر من السيطرة والتفريق بين الدعاوى التي ينبغي المُضي فيها قدماً وتلك التي ينبغي تعليقها.
من جانب آخر، فإن تطبيق القانون والتعامل به أمام المحكمة أمر ليس بالسهل، فالمُدعون عليهم إثبات أن المُدعي عليه مسؤول بشكل مباشر عن العمل الإرهابي على الأراضي الأمريكية، وفي الحالة التي نحن بصددها فإن إثبات علاقة المملكة رسمياً بهجمات الحادي عشر من سبتمبر أمر شبه مستحيل، خاصةً بعد الإفراج عن الـ 28 صفحة من التقرير الرسمي الأمريكي حول هذه الأحداث، والذي أثبت أن لا علاقة بالمملكة بها. وحتى إذا تم قبول الدعوى استناداً إلى الوقائع الموضوعية للقضية، فإن القانون يجعل الحصول على أي تعويضات عن الضرر مستحيلاً، لأنه لا يوجد أي بند في "جاستا" يسمح للمحاكم الفيدرالية بإجبار دولة أجنبية ذات سيادة على تسليم أصول تمتلكها تنفيذاً للحكم.
ووفقاً لخبراء قانونيين أمريكيين لديهم خبرة في مقاضاة حكومات دول أجنبية، فإنه من الصعب مقاضاة الحكومة السعودية استناداً إلى "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، ودفع هؤلاء بحجتين لتأكيد هذا الرأي، أولاهما صعوبة قيام محامي عائلات الضحايا بإثبات أن السعودية كدولة أو حكومة مسؤولة بشكل مباشر عن أحداث 11 سبتمبر، والحجة الثانية هي صعوبة الحصول على وثائق من الحكومة الأمريكية أو السعودية تتعلق بالأحداث، حيث تمثل أسراراً ذات صلة بالأمن القومي.
وفي ظل هذه التشابكات القانونية والصعوبات أمام تطبيق بنود "جاستا"، فإنه ربما تستعين المملكة بشركات قانونية داخل الولايات المتحدة، بحيث يكون هدفها الرئيسي تحديد كيفية التعامل مع الموقف القانوني الذي أوجده "جاستا".
من جانب آخر، قد يلجأ الكونجرس خلال الفترة المقبلة، وربما بعد موسم الانتخابات، إلى تعديل القانون من أجل ضمان حماية القوات الأمريكية في الخارج، ومنع تعرض واشنطن لإجراءات تقاضٍ في الخارج أو مبدأ المعاملة بالمثل. كما أن الإدارة الأمريكية المُقبلة لن تغامر بشبكة علاقاتها ومصالحها الضخمة مع الرياض. وفي هذه الحالة قد تضغط السلطات السعودية من أجل أن تخرج الصياغة المعدلة للقانون بما يجنبها أي أضرار.
4- العمل الخليجي المشترك، وهي ورقة شديدة الأهمية في دعم الموقف السعودي، حيث قد تتخذ دول الخليج مواقف تضامنية، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، مع المملكة حال اتخاذ أي إجراءات أمريكية ضدها على خلفية قانون "جاستا". وهي الفرضية التي تعززها التصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين خليجيين، فقد صرح الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور عبداللطيف بن راشد الزياني، بأن دول مجلس التعاون تعتبر هذا التشريع الأمريكي متعارضاً مع مبدأ الحصانة السيادية التي تتمتع بها الدول، وأي إخلال بهذا المبدأ سيكون له انعكاسات سلبية على العلاقات بين الدول، إضافة إلى ما قد يحدثه هذا التشريع من أضرار اقتصادية عالمية.
كذلك حذر سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، من أن قوانين مُماثلة ستؤثر سلباً على الجهود الدولية والتعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. فيما أكد وزير الخارجية البحريني خالد أحمد الخليفة فور إقرار القانون بأنه سيرتد على واشنطن نفسها.
ختاماً، يبدو أن العلاقات السعودية - الأمريكية سوف تدخل مرحلة جديدة يشوبها مزيد من التوتر غير المسبوق والخلافات المتصاعدة، خاصةً أن أولى القضايا قد رُفعت بالفعل في المحاكم الأمريكية على المملكة بعد إقرار قانون "جاستا". ومن المتوقع أن تتعرض المملكة، على خلفية هذا القانون، إلى درجة من درجات الابتزاز، ليس فقط المالي، بل والسياسي أيضاً، لأن "جاستا" يجيز لوزارة الخارجية الأمريكية التدخل وإجراء مفاوضات مع الحكومة أو الدولة التي ستُرفع ضدها قضايا، ومن ثم يمكن تعطيل إجراءات التقاضي لحين الانتهاء من المفاوضات، وهذا يعني أن الأمور ستخضع لمساومات سياسية.
المملكة العربية السعودية، إذاً، أمام لحظة فارقة في علاقتها مع الولايات المتحدة، وهي لحظة قد تدفع المملكة إلى إعادة تقييمها بشكل استراتيجي، مع أهمية التفكير في كيفية التعامل مع الجانب القانوني المرتبط بتطبيقات "جاستا"، وبحث أوراق الضغط المتاحة أمامها وتعظيم الاستفادة منها حال اتخاذ أي إجراءات ضدها.
نائب مدير مركز المستقبل للشؤون التنفيذية
تاريخ: 2016-10-03
دخلت العلاقات السعودية - الأمريكية مرحلة جديدة من التوتر في أعقاب إقرار الكونجرس لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب Justice Against Sponsors of Terrorism Act والذي يُعرف اختصاراً باسم قانون "جاستا" JASTA، بعد أن صوتت الهيئة التشريعية الأمريكية يوم 28 سبتمبر الماضي على إبطال الفيتو الرئاسي ضد القانون.
وبالتالي يعد هذا القانون نقطة فاصلة في مسيرة العلاقات بين واشنطن والرياض، التي عانت خلال الفترة الأخيرة حالة من عدم الثقة، خاصةً مع موقف الإدارة الأمريكية من إيران وإبرام الاتفاق النووي معها. وربما تمثل التطورات الأخيرة، بعد خطوة الكونجرس، ذروة التوتر في هذه العلاقات، حال التصعيد ضد المملكة، مما قد يُنبئ ببدء حقبة جديدة سيُطلق عليها "ما بعد جاستا".
قانون مثير للجدل
على الرغم من كون قانون "جاستا" لا ينص صراحةً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ولا يشير إلى المملكة العربية السعودية، فإن سياق الأحداث يُوحي ضمناً بذلك. فالتصويت على القانون الذي تم مؤخراً تزامن مع الذكرى السنوية الـ 15 لتلك الأحداث الإرهابية. كما أن فكرة مشروع القانون طُرحت بالأساس استجابة لدعاوى فردية مدنية رُفعت ضد المملكة في محاكم أمريكية فور وقوع تفجيرات 11 سبتمبر إبان فترة الرئيس الأسبق جورج بوش، لكنها رُفضت وقتها.
ويسمح القانون الجديد للمحاكم الأمريكية بالنظر في قضايا تتعلق بـ"مطالبات ضد أي دولة أجنبية فيما يخص الإصابات، أو القتل، أو الأضرار التي تحدث داخل الولايات المتحدة نتيجة لعمل إرهابي يُرتكب في أي مكان من قبل دولة أو مسؤول أجنبي". وتسري التعديلات التي أُدخلت على هذا القانون على الإجراءات المدنية "المُعلقة أو التي بدأت بعد تاريخ صدور هذا القانون"، و"رفع دعوى بالأضرار التي لحقت بالأشخاص أو الممتلكات في أو بعد 11 سبتمبر 2001".
وقد أثارت بنود هذا القانون جدلاً كبيراً، باعتباره يمثل انتهاكاً لمبدأ سيادة الدول، إذ أنه لا يجوز لدولة أن تصدر تشريعياً محلياً لفرض عقوبة على دولة أخرى.
يُذكر أن مشروع القانون قُدِّم في عام 2009، لكنه لم يُمرَّر، ثم أُعيد تقديمه إلى مجلس الشيوخ في نهاية عام 2015، من قِبل كل من السيناتور الديمقراطي شارلز شاومر، والسيناتور الجمهوري جون كورنيان. وحظي القانون بدعم 24 سيناتور داخل المجلس؛ منهم 12 جمهورياً، و11 ديمقراطياً، وسيناتور واحد مستقل. وبدأت أولى مراحل مناقشة القانون في مجلس الشيوخ يوم 16 سبتمبر عام 2015، وأعدت اللجان المختصة بالمجلس تقاريرها بشأنه بعد إدخال تعديلات عليه يوم 28 يناير 2016، وتم التصويت عليه في المجلس وتمريره بأغلبية الأصوات يوم 17 مايو 2016. ثم أُقر من مجلس النواب، لكن رفضه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مُستخدماً حق النقض. وعاد القانون إلى الكونجرس مرة أخرى ليُقره يوم 28 سبتمبر 2016، ويصبح القانون سارياً، بعد رفض الفيتو الرئاسي.
اعتراض سعودي
على الرغم من كون المملكة العربية السعودية غير معنية صراحةً بقانون "جاستا"، فإنها أكدت اعتراضها عليه، حيث أصدر مجلس الوزراء السعودي بياناً، في 3 أكتوبر الجاري، ذكر خلاله أن قانون "جاستا" يشكل مبعث قلق بالغ للمجتمع الدولي، على اعتبار أنه يضعف الحصانة السيادية للدول، وهو من شأنه التأثير سلباً على جميع الدول بما في ذلك الولايات المتحدة. وأعرب البيان عن أمل المملكة في أن يتخذ الكونجرس الخطوات اللازمة من أجل تجنب العواقب الخطيرة لهذا القانون.
وفي خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، عقَّب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف على القانون الأمريكي، مؤكداً أن السعودية دولة مستهدفة، إلا أنها تحصن نفسها.
وكان موقف المملكة من قانون "جاستا" واضحاً منذ التصويت الأول عليه من قِبل مجلس الشيوخ الأمريكي، حيث حذر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، في 18 مايو 2016، من أن ما يقوم به الكونجرس "سيحول العالم من القانون الدولي إلى قانون الغاب".
وفي ذات الاتجاه، سبق أن أكد عبدالله آل الشيخ، رئيس مجلس الشورى السعودي، في 14 سبتمبر 2016، أن هذا التشريع يشكل انتهاكاً لمبدأ حصانة الدول من الولاية القضائية، والذي يشدد على عدم جواز إخضاع الدولة إلى الولاية القضائية لدولة أجنبية، مُحذراً من أن إقرار مثل هذا القانون سيفتح الباب على مصراعيه للدول الأخرى لإصدار تشريعات وقوانين مشابهة، ما يؤدي إلى الإخلال بمبادئ دولية راسخة.
أوراق ضغط سعودية
يبدو أن المملكة العربية السعودية تتعرض لحالة "ابتزاز" مالي وسياسي غير مسبوقة من قِبل الولايات المتحدة، فهناك حوالي 750 مليار دولار من الاستثمارات والودائع والأصول المالية السعودية في الأسواق الأمريكية؛ من بينها 119 ملياراً سندات خزانة. ونظرياً، يمكن أن يتم وضع اليد عليها وتجميدها، في حال صدور أي تعوضيات ضحايا هجمات 11 سبتمبر، والتي يقدرها البعض بنحو 3.3 تريليون دولار.
ويبقى السؤال: ما هي أوراق الضغط التي تمتلكها المملكة في التعامل مع قانون "جاستا" المعيب؟ فالسعودية لديها بالفعل خيارات عديدة في مجابهة هذا القانون والرد عليه، ولعل من أبرزها ما يلي:
1- سحب الاستثمارات والأصول السعودية: فقد سبق لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن لوح باستخدام ورقة الاستثمارات والأصول الضخمة التي تملكها بلاده في الولايات المتحدة، وإمكانية أن تقوم المملكة بسحبها، بيد أنه عاد واعتبر إن ما قِيل ليس تهديداً، وإنما تحذير من تداعيات هذا القانون على ثقة المستثمرين في الولايات المتحدة.
وفي الحقيقة، ثمة صعوبات قد تنطوي على اللجوء إلى هذا الخيار، لأن بيع المملكة لأصولها في الولايات المتحدة أمر بالغ التعقيد، كما أن قيام الرياض بهذه الخطوة سيعني تراجعاً في أسعار هذه الأصول بصورة كبيرة، ما ينتج عنه خسائر ضخمة. وبالتالي تظل هذه الورقة الاقتصادية مؤثرة إذا استدعت الضرورة، وإن كانت صعبة التنفيذ.
2- ملف مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني: قد تضغط المملكة العربية السعودية من خلال خفض مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي مع واشنطن، بحيث يكون رد الرياض في صورة وضع المصالح الأمريكية على المحك، مثل عدم السماح بالتحليق بين الأجواء الأوروبية والآسيوية واستخدام قواعد عسكرية في المنطقة تُعدُّ ضرورية لعمليات الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وسوريا.
ويُشار إلى أنه على الرغم من فتور العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة منذ وصول أوباما إلى الحكم مطلع 2009، وخصوصاً مع تقارب واشنطن وإيران في ظل الاتفاق النووي، فإن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب لم يتأثر بفتور العلاقة السياسية. فالسعودية تمتلك قاعدة ضخمة من المعلومات الاستخباراتية في مجال مكافحة الإرهاب، التي تستفيد منها واشنطن بشكل كبير. وفي حال قررت المملكة عدم مشاركة هذه المعلومات، فستتضرر الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، ما يضعها أمام تهديدات أمنية بسبب نقص المعلومات، وهو الأمر الذي حذر منه مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جون برينان، مؤكداً أن للقانون "تداعيات خطيرة" على الأمن القومي الأمريكي.
3- إجراءات قانونية: تنص النسخة المعدلة من المشروع على حق وزير الخارجية الأمريكي في أن يؤجل أي حكم يصدر من محكمة استناداً لهذا القانون إلى أجل غير مسمى، ما يمكن اعتباره امتيازاً لصالح البيت الأبيض، يتيح ممارسة قدر من السيطرة والتفريق بين الدعاوى التي ينبغي المُضي فيها قدماً وتلك التي ينبغي تعليقها.
من جانب آخر، فإن تطبيق القانون والتعامل به أمام المحكمة أمر ليس بالسهل، فالمُدعون عليهم إثبات أن المُدعي عليه مسؤول بشكل مباشر عن العمل الإرهابي على الأراضي الأمريكية، وفي الحالة التي نحن بصددها فإن إثبات علاقة المملكة رسمياً بهجمات الحادي عشر من سبتمبر أمر شبه مستحيل، خاصةً بعد الإفراج عن الـ 28 صفحة من التقرير الرسمي الأمريكي حول هذه الأحداث، والذي أثبت أن لا علاقة بالمملكة بها. وحتى إذا تم قبول الدعوى استناداً إلى الوقائع الموضوعية للقضية، فإن القانون يجعل الحصول على أي تعويضات عن الضرر مستحيلاً، لأنه لا يوجد أي بند في "جاستا" يسمح للمحاكم الفيدرالية بإجبار دولة أجنبية ذات سيادة على تسليم أصول تمتلكها تنفيذاً للحكم.
ووفقاً لخبراء قانونيين أمريكيين لديهم خبرة في مقاضاة حكومات دول أجنبية، فإنه من الصعب مقاضاة الحكومة السعودية استناداً إلى "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب"، ودفع هؤلاء بحجتين لتأكيد هذا الرأي، أولاهما صعوبة قيام محامي عائلات الضحايا بإثبات أن السعودية كدولة أو حكومة مسؤولة بشكل مباشر عن أحداث 11 سبتمبر، والحجة الثانية هي صعوبة الحصول على وثائق من الحكومة الأمريكية أو السعودية تتعلق بالأحداث، حيث تمثل أسراراً ذات صلة بالأمن القومي.
وفي ظل هذه التشابكات القانونية والصعوبات أمام تطبيق بنود "جاستا"، فإنه ربما تستعين المملكة بشركات قانونية داخل الولايات المتحدة، بحيث يكون هدفها الرئيسي تحديد كيفية التعامل مع الموقف القانوني الذي أوجده "جاستا".
من جانب آخر، قد يلجأ الكونجرس خلال الفترة المقبلة، وربما بعد موسم الانتخابات، إلى تعديل القانون من أجل ضمان حماية القوات الأمريكية في الخارج، ومنع تعرض واشنطن لإجراءات تقاضٍ في الخارج أو مبدأ المعاملة بالمثل. كما أن الإدارة الأمريكية المُقبلة لن تغامر بشبكة علاقاتها ومصالحها الضخمة مع الرياض. وفي هذه الحالة قد تضغط السلطات السعودية من أجل أن تخرج الصياغة المعدلة للقانون بما يجنبها أي أضرار.
4- العمل الخليجي المشترك، وهي ورقة شديدة الأهمية في دعم الموقف السعودي، حيث قد تتخذ دول الخليج مواقف تضامنية، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، مع المملكة حال اتخاذ أي إجراءات أمريكية ضدها على خلفية قانون "جاستا". وهي الفرضية التي تعززها التصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين خليجيين، فقد صرح الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور عبداللطيف بن راشد الزياني، بأن دول مجلس التعاون تعتبر هذا التشريع الأمريكي متعارضاً مع مبدأ الحصانة السيادية التي تتمتع بها الدول، وأي إخلال بهذا المبدأ سيكون له انعكاسات سلبية على العلاقات بين الدول، إضافة إلى ما قد يحدثه هذا التشريع من أضرار اقتصادية عالمية.
كذلك حذر سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، من أن قوانين مُماثلة ستؤثر سلباً على الجهود الدولية والتعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. فيما أكد وزير الخارجية البحريني خالد أحمد الخليفة فور إقرار القانون بأنه سيرتد على واشنطن نفسها.
ختاماً، يبدو أن العلاقات السعودية - الأمريكية سوف تدخل مرحلة جديدة يشوبها مزيد من التوتر غير المسبوق والخلافات المتصاعدة، خاصةً أن أولى القضايا قد رُفعت بالفعل في المحاكم الأمريكية على المملكة بعد إقرار قانون "جاستا". ومن المتوقع أن تتعرض المملكة، على خلفية هذا القانون، إلى درجة من درجات الابتزاز، ليس فقط المالي، بل والسياسي أيضاً، لأن "جاستا" يجيز لوزارة الخارجية الأمريكية التدخل وإجراء مفاوضات مع الحكومة أو الدولة التي ستُرفع ضدها قضايا، ومن ثم يمكن تعطيل إجراءات التقاضي لحين الانتهاء من المفاوضات، وهذا يعني أن الأمور ستخضع لمساومات سياسية.
المملكة العربية السعودية، إذاً، أمام لحظة فارقة في علاقتها مع الولايات المتحدة، وهي لحظة قد تدفع المملكة إلى إعادة تقييمها بشكل استراتيجي، مع أهمية التفكير في كيفية التعامل مع الجانب القانوني المرتبط بتطبيقات "جاستا"، وبحث أوراق الضغط المتاحة أمامها وتعظيم الاستفادة منها حال اتخاذ أي إجراءات ضدها.