المعلومات الخطيرة التى كشف عنها المستشار هشام جنينة في حديثه عن الفساد فى مصر تحتاج إلى وقفة طويلة وحازمة. حتى أزعم أن كل من يسكت عليها يصبح ضالعا فى الفساد ومتواطئا معه. ذلك أن الحجم الذى تحدث عنه يفتح أعيننا على حقيقة أن الفساد استشرى حتى صار من «الكبائر» التى يغدو إنكارها فرض عين على الجميع، وعلى رأسهم أولو الأمر الذين ائتمنوا على مقدرات البلد ومصالحه.
كان الرجل شجاعا فى الحوار الذى أجرته معه جريدة «المصرى اليوم» ونشرته على يومين (٢٣ و٢٤ أغسطس)، إذ قال ما قاله وهو يعلم أن باب السجن لايزال مفتوحا له. لكننا ينبغى أن نسجل أيضا أن الجريدة التى نشرت الحوار والصحفى الذى أجراه لهما نصيبهما من الشجاعة أيضا. ذلك أن الرجل الذى كان مسئولا عن مكافحة الفساد وعوقب جراء ذلك، قال ما لم يقله أحد من قبل عن حجمه وأطرافه. وإذا كان ما أفصح عنه خطيرا بما فيه الكفاية، فلابد أن يكون الأخطر منه ما لم يفصح عنه. من ذلك مثلا أنه حين سئل عن أسماء ومواقع «أصحاب الحظوة» من الأكابر الذين تخصص لهم الأراضى بأثمان زهيدة بصورة غير مشروعة، كان رده بليغا حيث قال: لا داعى لذكر الأسماء والأرقام، لأن ذلك كفيل ليس بسجنه فحسب وإنما لسجن المحرر أيضا. الأمر الذى لم يكن له تفسير سوى أن هؤلاء يملكون من السلطة والنفوذ ما يمكنهم من ذلك.
الحوار الذى أجرى مع الرئيس السابق لجهاز المحاسبات نشر على صفحتين كاملتين، ولا أستطيع تلخيصه، لكننى سأكتفى بإيراد بعض النقاط ذات الدلالة التى جاءت على لسانه ومنها ما يلى:
< فكرة فتح ملف الفساد وتحديد حجمه هى بالأساس مشروع لوزارة التخطيط. إذ رغب وزيرها فى إعداد دراسة عنه فى بداية عام ٢٠١٥، بناء على بروتوكول بين الوزارة والمركز الإنمائى للأمم المتحدة. وعندئذ طلب الوزير الاستعانة باثنين من خبراء جهاز المحاسبات للجنة التى شكلها لذلك الغرض. وقد قدرت تلك اللجنة حجم الفساد فى السنة الواحدة بمبلغ ٢٤٧.٧ مليار جنيه. وحين أرسل تقريرها إلى جهاز المحاسبات لاعتماده فإنه أبدى تحفظه عليها لأن أرقامها غير موثقة، وحين روجع وزير التخطيط فى ذلك تم الاتفاق على أن يتولى خبراء الجهاز إعداد التقرير بحيث يشمل الفترة بين عام ٢٠١٢ و٢٠١٥.
< الرقم الحقيقى لحجم الفساد فى السنوات الأربع يتجاوز بكثير مبلغ الـ٦٠٠ مليار جنيه الذى أثار اللغط فى الإعلام المصرى. ذلك أن الرقم الحقيقى الذى لم يكلف أحد نفسه عناء البحث عنه يتجاوزه إلى حد كبير. آية ذلك أن مبلغ الـ٦٠٠ مليار جنيه هو مجرد تقرير للفساد فى بند واحد من ١٤ بندا أجريت عليها دراسة مستفيضة شملت السنوات من عام ٢٠١٢ إلى ٢٠١٥، «ولأن لدينا مستندات ووثائق تؤكد صحة المعلومات التى وردت فيها فنحن واثقون من صواب تقديراتها».
< هذه الدراسات أرسلت نتائجها إلى رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير التخطيط، ولم يتلق الجهاز أى تعقيب أو تصويب لما ورد فيها من تقديرات. وبعد مضى أكثر من شهر على إرسالها بدأت وسائل الإعلام فى الحديث عن بلاغات ضد الجهاز اتهمته ببث معلومات كاذبة تهدد المصالح العليا للبلد. وكان يفترض أن يصدر ذلك عن الحكومة التى تلقت التقارير إلا أن ما كان مثيرا للانتباه والارتياب أن مقدمى البلاغات كانوا أفرادا عاديين (ليس معروفا كيف شكلوا انطباعاتهم عن التقارير التى أرسلت إلى الجهات الرسمية الثلاث السابق ذكرها).
< المشكلة برزت منذ أعلن رئيس الجهاز التقرير الأول للجهاز فى مؤتمر صحفى، التزاما بالدستور والقانون. إلا أن البعض لم يسترح لأن التقرير شمل أسماء وزراء ومسئولين حاليين ومتقاعدين إضافة إلى بعض الشخصيات فى عدد من المواقع الحساسة جدا. وهو ما أثار غضبهم، الأمر الذى ترتب عليه تحريك الدعاوى ضده غير عدد من التهديدات التى تلقاها، وإزاء الحركة الواسعة التى قام بها هؤلاء على مختلف الأصعدة، فإن ذلك جاء دالا على أن شبكة الفساد فى مصر أقوى من الأجهزة الرقابية. وفى عهد الرئيس المؤقت عدلى منصور فإن الرجل حين نقل الصورة إليه المستشار جنينة، فإن الرئيس المؤقت دعاه إلى الاستمرار فى نهجه مطمئنا إلى أنه لن يستطيع أحد أن ينال منه، خصوصا أنه محل ثقة وتقدير. وحين تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى منصبه فإنه طلب لقاءه مرتين يشرح له الموقف، لكنه لم يتلق ردا حتى صدور قرار عزله.
< صور الفساد فى المجال العقارى هى الأشد والأخطر. والحصة الأكبر من الفساد فى ذلك المجال من نصيب هيئة المجتمعات العمرانية وهيئة التنمية السياحية وهيئة التنمية الصناعية والزراعية. ذلك أن الأراضى فى تلك القطاعات تخصص بالأمر المباشر بأسعار زهيدة تقل عن ثمنها الحقيقى، ثم تحول بعد ذلك إلى أرض للبناء لتباع بأسعار خيالية. وهؤلاء المتنفذون يركزون فى مشترياتهم على أراضى الحزام الأكبر فى أكتوبر ومارينا، وأحمد عرابى والقاهرة الجديدة.
< تعد الصناديق الخاصة فى الوزارات من أبرز مظاهر الفساد التى كشفت عنها تقارير الجهاز. ذلك أنه يتم اقتطاع مبالغ مالية كبيرة من ميزانية بعض الوزارات وإيداعها فى تلك الصناديق بشكل عشوائى دون رقابة من الجهاز أو وزارة المالية. أما بند الهدايا التى تقدم للمسئولين فهو يشمل فصوص الألماظ والساعات الذهبية والجنيهات الذهبية، فضلا عن الثلاجات والمكيفات. وفى بعض الأحيان كانت قيمة الهدايا تقدر بالملايين، كما أنها كانت تشمل تأثيث بيت كامل بجميع احتياجاته وتقديمه «هدية» للمسئولين فى بعض المناسبات.
هذا قليل من كثير ذكره المستشار هشام جنينة، وهو ما اعتبره عريضة اتهام ومحاكمة للذين حاربوه بمختلف السبل (خص بالذكر منهم وزير الداخلية السابق). وبأى معيار سياسى فإن كلامه يعد قنبلة أطلقها فى فضاء مصر السياسى، إذا لم يؤد إلى استقالة الوزارة. فعلى الأقل فإنه يستنفر البرلمان ويحفزه لأخذ الحملة ضد الفساد على محمل الجد. وتلك أجواء طبيعية فى الدول الديمقراطية التى لسنا منها.