محاولة لفهم ما يجري في تركيا وتفسيره
شفيق ناظم الغبرا

فشل الانقلاب في تركيا وبقاء حكومة منتخبة ديموقراطياً في موقعها، على قدر كبير من الأهمية لمستقبل تركيا والإقليم العربي. فالحزب الحاكم في تركيا، «العدالة والتنمية»، فاز منذ ٢٠٠٢ بأكثر من عشرة انتخابات برلمانية ورئاسية. الفارق هذه المرة، أن الانقلاب الذي أراد أن يصادر الإرادة الانتخابية هزمته الحالة الشعبية التي صوّتت في انتخابات متتالية لحزب «العدالة والتنمية» كما وللمعارضة. لقد أنهى الانقلاب في ليلة واحدة وفي ساعات قليلة، دولة كمال أتاتورك التي استندت إلى نخب عسكرية ودور الجيش في حماية الدولة، وثبت فشل الانقلاب في دولة تستند الى إرادة شعبية. لقد تحوّل الشعب التركي الى الحكم الحقيقي والميزان النهائي في تركيا المستقلة عن مراكز النفوذ العالمية بما فيها الأميركية.
لكن الانقلاب في تركيا مثّل، في صورة واضحة، حالة صراع كلاسيكية على السلطة في ظل تغيرات اجتماعية تطورت في قلب المجتمع التركي. هذا الصراع ارتبط بصعود أردوغان في أواخر تسعينات القرن العشرين وسجنه ثم إطلاق سراحه وقيادته تركيا منذ ٢٠٠٢ نحو ديموقراطية أعمق، في ظلّ الحد من النفوذ السياسي للجيش. ويستند الرئيس أردوغان اجتماعياً إلى بنية شعبية متجذرة ونخب صاعدة جاءت من قلب الأناضول المهمش، هذه النخب الجديدة والمحافظة جاءت الى الحكم بوسائل ديموقراطية وضمن آليات غير عنيفة، لكنها لم تكن موضع ترحيب من النخبة الأتاتوركية والعسكرية التقليدية. في تركيا، وقعت عملية استيعاب ديموقراطي لتغيرات في قاع المجتمع (في هذا فشلت الدول العربية)، وهذا اقترن في الوقت نفسه مع استيعاب للإسلام السياسي الذي استند إلى الشرائح الجديدة، ما مهّد لتداخل الديموقراطية مع الإسلام. تركيا شكلت ذلك النموذج الذي يدمج الإسلام ويتفادى العنف والديكتاتورية الشائعة في الكثير من الدول الإسلامية لمنع عملية الدمج التلقائي والمعتدل.
تركيا الآن جريحة، وقد اهتزت ثقتها بالغرب وبالولايات المتحدة، وأردوغان الذي كاد أن يقتل أو أن يكون خلف القضبان نجا من الفخ، كما أنه صمد بفضل شجاعته وبفضل مستوى التنظيم بين أنصاره وبين شعبه. كان أردوغان في طريقه قبل الانقلاب، الى تحجيم أكبر للجيش ودوره السياسي، وكان في الوقت نفسه في طريقه الى فرض التقاعد على قادة في الجيش والأجهزة الحكومية من المرتبطين بحركة غولن. يبدو من المقدمات أن هذه القوى حاولت استباق تحركات أردوغان من خلال الانقلاب.
لم يكن الانقلاب عملية صغيرة، فقوى رئيسية في الجيش تصل الى ثلث الجيش وقادة الجيش الثاني والثالث وأكثر من ٢٠ جنرالاً، وقواعد عسكرية وطيران، كانت مشاركة في الانقلاب.
لقد هزم الرئيس أردوغان الانقلاب، وهذا لم يقع سابقاً في تركيا، وهو مصمّم على منع الانقلابات في المستقبل. في هذا الإطار، جاء إعلان الطوارئ. الجيش التركي في الخطة الجديدة لن يكون الجيش نفسه، سيخرج الجيش من المدن، وسيخضع للمدنيين بالكامل وللمحافظات، لكنه سيكون أضعف وسيتم تعزيز قوة خاصة تتبع الرئيس.
في تركيا، سترتفع التناقضات بسبب الإجراءات وبسبب ملاحقة أطراف مختلفة، بخاصة حركة غولن وما يعرف بالنظام الموازي، إضافة الى صحافيين وأساتذة جامعات ومدارس ومدرسين من الحركة. فالاجتثاث عندما يقع يحمل معه ثمناً ويخلق سلبيات مضادة. سبق لدول ديموقراطية أن مارست السياسات ذاتها، ومنها الولايات المتحدة في خمسينات القرن العشرين، لكن ذلك تحوّل الى مجال واضح للنقد والمواجهة، بل أدى الى خسائر في الحقوق وفي المجتمع المدني. هذا الوضع الجديد لن يمنع انتشار نسب متفاوتة من العنف في المرحلة المقبلة، فقد تتعقد القضية الكردية، وقد تضعف آليات الحوار مع استمرار المواجهة مع الأكراد.
إن جماعة غولن خليط بين الروحانية والاعتدال الإسلامي، لكنها ليست حركة مفتوحة، فهي تتعامل بسرية وذكاء كبير ولديها أنصار منتشرون في مواقع مختلفة. معظم العالم غير مقتنع بطريقة تعامل الرئيس أردوغان مع هذه الحركة، أو حتى بدورها في الانقلاب، لكن لا يوجد ما ينفي أن بعض الجنرالات متداخلون في صورة أو في أخرى مع الحركة وسرية تحركاتها، وأن مواقعها في الأجهزة تمثّل دولة تمنع أردوغان المدعوم بإرادة شعبية من تحقيق رؤيته. تركيا في المرحلة المقبلة أمام تحدٍّ كبير بين الحفاظ على ديموقراطيتها وبين الدخول في صراع داخلي يترك أكبر الأثر في الاقتصاد والتنمية والاستثمار والحريات.
لقد انفجر الخلاف سابقاً بين أردوغان وغولن عندما انتقد غولن سياسة دعم غزة ومحاولة أردوغان دعم فك حصارها عبر البحر من خلال سفينة «الحرية»، ثم تعمّق الخلاف عندما قامت جماعة مرتبطة بغولن بتسريب معلومات عن أردوغان وعائلته في أمور متعلّقة بالفساد. يبدو بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٢ أن الأمر تحول الى صراع ونزاع بين الرجلين. سابقاً، ساعد أردوغان على تقوية جماعة غولن في الدولة والمحاكم والقضاء والأجهزة، كان ذلك في زمن صعود أردوغان وحاجته الى هذه المجموعة، لكن الأمر انقلب الى النقيض قبل الانقلاب.
ما سيحدّد قدرة أردوغان على تحمّل تبعات المرحلة المقبلة، مرتبط بعوامل عدة من أهمها الاستمرار في تطوير بنية البلاد وسياحتها. خيارات أردوغان الاقتصادية متعددة، فهو في الأساس قام بإصلاحات اقتصادية وسياسية، ولهذا لن تكون السلطة في تركيا رهينة مصالح الجيش الضيقة، ولن تكون رهينة مصالح كبار البيروقراطيين والأجهزة.
والأجهزة. هذا سيحدّد الفارق في تحالفات السلطة وعمقها، بل ستكون السلطة في تركيا معتمدة على رؤية الحزب الحاكم من جهة، ورؤية القواعد الشعبية التي انتخبت هذا الحزب في الشارع التركي من جهة أخرى، وفي هذا يحتاج هذا الحزب الى العمل على بناء حوار جاد وإشراك واضح لقوى المعارضة التي وقفت بقوة ضد الانقلاب. إن نجح سيكون النموذج التركي قادراً على تطوير مشروعه.
في المرحلة المقبلة، سيسعى أردوغان الى تعديل الدستور بحيث يتحول النظام في تركيا الى نظام رئاسي كما هي حال أنظمة رئاسية ديموقراطية. ستكون للرئيس المنتخب صلاحيات كبيرة، وهذا سيغير تركيا من دولة برلمانية قائمة على تحالف حزبي يواجه صعوبات في صنع القرار، الى دولة رئاسية أكثر قدرة على صنع القرار. النظام البرلماني أكثر جموداً في صنع القرار بحكم التنوع الحزبي في البرلمان وانعكاس ذلك على تشكيل الحكومة، بينما الرئيس المنتخب في النظام الرئاسي يعين الحكومة ويقودها في ظل برلمان يعنى بالميزانيات والقوانين والرقابة والضرائب والحقوق.
كثيراً ما اشتكى معارضو النظام السوري من بطء الإجراءات التركية، بينما تمتع أصدقاء إيران كـ «حزب الله» و»الحشد الشعبي» بداعم منظم يتعامل مع الوقت والقرار بفاعلية. النظام الرئاسي أكثر فاعلية وتفاعلاً مع الأحداث، لكنه أقل ليبرالية.
تركيا ليست نموذجاً ليبرالياً في شؤون الحريات والتعبير، بل في زمن ما قبل أردوغان كانت دولة سلطوية يتحكم بها الجيش، لكنها في هذه المرحلة من تطورها الشاق والصعب تستند إلى انتخابات حرة ونزيهة، وتنوّع في الأفكار، وبرلمان يراقب ويطرح قضايا، وأحزاب معارضة نقدية، ووجوه عدة في الحياة السياسية، وهي تحكم من مدنيين قابلين للتغير في انتخابات دورية. لقد نجحت تركيا في استعادة روحها الحضارية التي فقدتها مع الكمالية ذات المنحى الأوروبي. تركيا في العهد الأردوغاني استعادت توازناً مفقوداً بين الإسلام والحداثة وبين الشرق والغرب والإسلام والديموقراطية، وفي هذا أهمية النموذج وعمقه بل ومكانته التاريخية للتجربة الإسلامية في ظل فشل النظام العربي في إدارة إمكاناته وآفاق تطوّره.
ستعود تركيا ثانية للبحث عن مكانتها في الشرق العربي والإسلامي، لكن ذلك لن يقع بين يوم وليلة. ستنشغل تركيا بنفسها وبظروفها في المرحلة المقبلة. ستندم أوروبا على استبعاد تركيا من أوروبا في قرار قادته ألمانيا وفرنسا قبل عقد، وهذا سيدفع بتركيا في صورة أكبر نحو الشرق العربي بصفته عمقها الاستراتيجي ومجالها الحيوي. هذا اتجاه تاريخي سيوازي الاندفاعة الإيرانية نحو الإقليم العربي. إن المرحلة العربية والتركية المقبلة المحفوفة بالتقلبات مستمرة، كما أن المصير التركي والعربي سيكون أكثر تداخلاً من أي وقت مضى.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
شفيق ناظم الغبرا

فشل الانقلاب في تركيا وبقاء حكومة منتخبة ديموقراطياً في موقعها، على قدر كبير من الأهمية لمستقبل تركيا والإقليم العربي. فالحزب الحاكم في تركيا، «العدالة والتنمية»، فاز منذ ٢٠٠٢ بأكثر من عشرة انتخابات برلمانية ورئاسية. الفارق هذه المرة، أن الانقلاب الذي أراد أن يصادر الإرادة الانتخابية هزمته الحالة الشعبية التي صوّتت في انتخابات متتالية لحزب «العدالة والتنمية» كما وللمعارضة. لقد أنهى الانقلاب في ليلة واحدة وفي ساعات قليلة، دولة كمال أتاتورك التي استندت إلى نخب عسكرية ودور الجيش في حماية الدولة، وثبت فشل الانقلاب في دولة تستند الى إرادة شعبية. لقد تحوّل الشعب التركي الى الحكم الحقيقي والميزان النهائي في تركيا المستقلة عن مراكز النفوذ العالمية بما فيها الأميركية.
لكن الانقلاب في تركيا مثّل، في صورة واضحة، حالة صراع كلاسيكية على السلطة في ظل تغيرات اجتماعية تطورت في قلب المجتمع التركي. هذا الصراع ارتبط بصعود أردوغان في أواخر تسعينات القرن العشرين وسجنه ثم إطلاق سراحه وقيادته تركيا منذ ٢٠٠٢ نحو ديموقراطية أعمق، في ظلّ الحد من النفوذ السياسي للجيش. ويستند الرئيس أردوغان اجتماعياً إلى بنية شعبية متجذرة ونخب صاعدة جاءت من قلب الأناضول المهمش، هذه النخب الجديدة والمحافظة جاءت الى الحكم بوسائل ديموقراطية وضمن آليات غير عنيفة، لكنها لم تكن موضع ترحيب من النخبة الأتاتوركية والعسكرية التقليدية. في تركيا، وقعت عملية استيعاب ديموقراطي لتغيرات في قاع المجتمع (في هذا فشلت الدول العربية)، وهذا اقترن في الوقت نفسه مع استيعاب للإسلام السياسي الذي استند إلى الشرائح الجديدة، ما مهّد لتداخل الديموقراطية مع الإسلام. تركيا شكلت ذلك النموذج الذي يدمج الإسلام ويتفادى العنف والديكتاتورية الشائعة في الكثير من الدول الإسلامية لمنع عملية الدمج التلقائي والمعتدل.
تركيا الآن جريحة، وقد اهتزت ثقتها بالغرب وبالولايات المتحدة، وأردوغان الذي كاد أن يقتل أو أن يكون خلف القضبان نجا من الفخ، كما أنه صمد بفضل شجاعته وبفضل مستوى التنظيم بين أنصاره وبين شعبه. كان أردوغان في طريقه قبل الانقلاب، الى تحجيم أكبر للجيش ودوره السياسي، وكان في الوقت نفسه في طريقه الى فرض التقاعد على قادة في الجيش والأجهزة الحكومية من المرتبطين بحركة غولن. يبدو من المقدمات أن هذه القوى حاولت استباق تحركات أردوغان من خلال الانقلاب.
لم يكن الانقلاب عملية صغيرة، فقوى رئيسية في الجيش تصل الى ثلث الجيش وقادة الجيش الثاني والثالث وأكثر من ٢٠ جنرالاً، وقواعد عسكرية وطيران، كانت مشاركة في الانقلاب.
لقد هزم الرئيس أردوغان الانقلاب، وهذا لم يقع سابقاً في تركيا، وهو مصمّم على منع الانقلابات في المستقبل. في هذا الإطار، جاء إعلان الطوارئ. الجيش التركي في الخطة الجديدة لن يكون الجيش نفسه، سيخرج الجيش من المدن، وسيخضع للمدنيين بالكامل وللمحافظات، لكنه سيكون أضعف وسيتم تعزيز قوة خاصة تتبع الرئيس.
في تركيا، سترتفع التناقضات بسبب الإجراءات وبسبب ملاحقة أطراف مختلفة، بخاصة حركة غولن وما يعرف بالنظام الموازي، إضافة الى صحافيين وأساتذة جامعات ومدارس ومدرسين من الحركة. فالاجتثاث عندما يقع يحمل معه ثمناً ويخلق سلبيات مضادة. سبق لدول ديموقراطية أن مارست السياسات ذاتها، ومنها الولايات المتحدة في خمسينات القرن العشرين، لكن ذلك تحوّل الى مجال واضح للنقد والمواجهة، بل أدى الى خسائر في الحقوق وفي المجتمع المدني. هذا الوضع الجديد لن يمنع انتشار نسب متفاوتة من العنف في المرحلة المقبلة، فقد تتعقد القضية الكردية، وقد تضعف آليات الحوار مع استمرار المواجهة مع الأكراد.
إن جماعة غولن خليط بين الروحانية والاعتدال الإسلامي، لكنها ليست حركة مفتوحة، فهي تتعامل بسرية وذكاء كبير ولديها أنصار منتشرون في مواقع مختلفة. معظم العالم غير مقتنع بطريقة تعامل الرئيس أردوغان مع هذه الحركة، أو حتى بدورها في الانقلاب، لكن لا يوجد ما ينفي أن بعض الجنرالات متداخلون في صورة أو في أخرى مع الحركة وسرية تحركاتها، وأن مواقعها في الأجهزة تمثّل دولة تمنع أردوغان المدعوم بإرادة شعبية من تحقيق رؤيته. تركيا في المرحلة المقبلة أمام تحدٍّ كبير بين الحفاظ على ديموقراطيتها وبين الدخول في صراع داخلي يترك أكبر الأثر في الاقتصاد والتنمية والاستثمار والحريات.
لقد انفجر الخلاف سابقاً بين أردوغان وغولن عندما انتقد غولن سياسة دعم غزة ومحاولة أردوغان دعم فك حصارها عبر البحر من خلال سفينة «الحرية»، ثم تعمّق الخلاف عندما قامت جماعة مرتبطة بغولن بتسريب معلومات عن أردوغان وعائلته في أمور متعلّقة بالفساد. يبدو بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١٢ أن الأمر تحول الى صراع ونزاع بين الرجلين. سابقاً، ساعد أردوغان على تقوية جماعة غولن في الدولة والمحاكم والقضاء والأجهزة، كان ذلك في زمن صعود أردوغان وحاجته الى هذه المجموعة، لكن الأمر انقلب الى النقيض قبل الانقلاب.
ما سيحدّد قدرة أردوغان على تحمّل تبعات المرحلة المقبلة، مرتبط بعوامل عدة من أهمها الاستمرار في تطوير بنية البلاد وسياحتها. خيارات أردوغان الاقتصادية متعددة، فهو في الأساس قام بإصلاحات اقتصادية وسياسية، ولهذا لن تكون السلطة في تركيا رهينة مصالح الجيش الضيقة، ولن تكون رهينة مصالح كبار البيروقراطيين والأجهزة.
والأجهزة. هذا سيحدّد الفارق في تحالفات السلطة وعمقها، بل ستكون السلطة في تركيا معتمدة على رؤية الحزب الحاكم من جهة، ورؤية القواعد الشعبية التي انتخبت هذا الحزب في الشارع التركي من جهة أخرى، وفي هذا يحتاج هذا الحزب الى العمل على بناء حوار جاد وإشراك واضح لقوى المعارضة التي وقفت بقوة ضد الانقلاب. إن نجح سيكون النموذج التركي قادراً على تطوير مشروعه.
في المرحلة المقبلة، سيسعى أردوغان الى تعديل الدستور بحيث يتحول النظام في تركيا الى نظام رئاسي كما هي حال أنظمة رئاسية ديموقراطية. ستكون للرئيس المنتخب صلاحيات كبيرة، وهذا سيغير تركيا من دولة برلمانية قائمة على تحالف حزبي يواجه صعوبات في صنع القرار، الى دولة رئاسية أكثر قدرة على صنع القرار. النظام البرلماني أكثر جموداً في صنع القرار بحكم التنوع الحزبي في البرلمان وانعكاس ذلك على تشكيل الحكومة، بينما الرئيس المنتخب في النظام الرئاسي يعين الحكومة ويقودها في ظل برلمان يعنى بالميزانيات والقوانين والرقابة والضرائب والحقوق.
كثيراً ما اشتكى معارضو النظام السوري من بطء الإجراءات التركية، بينما تمتع أصدقاء إيران كـ «حزب الله» و»الحشد الشعبي» بداعم منظم يتعامل مع الوقت والقرار بفاعلية. النظام الرئاسي أكثر فاعلية وتفاعلاً مع الأحداث، لكنه أقل ليبرالية.
تركيا ليست نموذجاً ليبرالياً في شؤون الحريات والتعبير، بل في زمن ما قبل أردوغان كانت دولة سلطوية يتحكم بها الجيش، لكنها في هذه المرحلة من تطورها الشاق والصعب تستند إلى انتخابات حرة ونزيهة، وتنوّع في الأفكار، وبرلمان يراقب ويطرح قضايا، وأحزاب معارضة نقدية، ووجوه عدة في الحياة السياسية، وهي تحكم من مدنيين قابلين للتغير في انتخابات دورية. لقد نجحت تركيا في استعادة روحها الحضارية التي فقدتها مع الكمالية ذات المنحى الأوروبي. تركيا في العهد الأردوغاني استعادت توازناً مفقوداً بين الإسلام والحداثة وبين الشرق والغرب والإسلام والديموقراطية، وفي هذا أهمية النموذج وعمقه بل ومكانته التاريخية للتجربة الإسلامية في ظل فشل النظام العربي في إدارة إمكاناته وآفاق تطوّره.
ستعود تركيا ثانية للبحث عن مكانتها في الشرق العربي والإسلامي، لكن ذلك لن يقع بين يوم وليلة. ستنشغل تركيا بنفسها وبظروفها في المرحلة المقبلة. ستندم أوروبا على استبعاد تركيا من أوروبا في قرار قادته ألمانيا وفرنسا قبل عقد، وهذا سيدفع بتركيا في صورة أكبر نحو الشرق العربي بصفته عمقها الاستراتيجي ومجالها الحيوي. هذا اتجاه تاريخي سيوازي الاندفاعة الإيرانية نحو الإقليم العربي. إن المرحلة العربية والتركية المقبلة المحفوفة بالتقلبات مستمرة، كما أن المصير التركي والعربي سيكون أكثر تداخلاً من أي وقت مضى.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت